وائل قنديل
ظلّ العالم يتفرّج على مأساة الشعب الفلسطيني أكثر من 76 عاماً، فيما راح النظام الرسمي العربي يستثمر فيها، حرباً وسلاماً زائفاً، من دون فعل واحد يمكنه أن يمنح أملاً للإنسان الفلسطيني في إنهاء عذاباته، حتّى جاءت عملية طوفان الأقصى في مثل هذا اليوم من العام الماضي، فعلاً فلسطينيّاً وعربيّاً حقيقيّاً، بعد ثمانية عقود من "الكلام مقابل وهم السلام".
ثمانية عقود كاملة، اتسم العقد الثامن منها بفضيحة اصطفاف عربي مع الكيان الصهيوني، تحت مظلّة أمريكية راحت تبحث عن كيانٍ بديلٍ لجامعة الدولة العربية، تكون محوره إسرائيل، يأخذ على عاتقه تنفيذ مشروع القضاء على صور المقاومة العربية كلّها ضدّ الاحتلال، الذي نزعت عنه صفة الاحتلال وصار شريكاً وحليفاً لعدد غير قليل من الدول العربية، في مجالات التعاون الاقتصادي والعسكري والسياسي.
تطلّب التعاون مع الاحتلال، الذي توغّل دبلوماسياً في عواصم عربية إضافية بعد كامب ديفيد الثانية، أن يكون العداء لفكرة المقاومة ومحاربة كلّ فصائلها خياراً استراتيجيّاً للولايات المتّحدة وتوابعها في المنطقة، مدفوعين جميعًا بهاجس أنّ الاحتلال، وبالضرورة أنظمة الاستبداد العربي، في خطر وجودي، ما بقيت المقاومة والمقاومون.
تلك هي المقدّمات التي أنتجت "طوفان الأقصى" الفلسطيني، ضرورة حتمية في حركة الزمان، بمواجهة أكبر عملية حرق لذاكرة التاريخ، من أجل التوصّل إلى جغرافيا جديدة، في إطار مشروعٍ لا يتوقّف رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، بنيامين نتنياهو، عن إعلانه، ولا يكفّ الرئيس الأمريكي، بايدن كان اسمه أم ترامب أم كامالا هاريس، عن التبشير به والنضال من أجله، حتّى إنّ الخرائط الأمريكية للجغرافيا السياسية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط كانت جاهزةً للتنفيذ، مع تلويح جو بايدن بأنّ طبخة التطبيع السعودي الإسرائيلي قد نضجت، وأنّ أبواب الشرق الأوسط الإسرائيلي قد انفتحت.
هنا كان ضروريّاً أن يبتدئ الفلسطيني الفعل، متحرّراً من سجن ردَّة الفعل على ما يبادر إليه الاحتلال من اعتداءاتٍ شملت الأراضي الفلسطينية كلّها، ما جعل الصهيوني يتصوّر أنّه بصدد فرصة تاريخية للإجهاز على الرمزية التاريخية والروحية للصراع، ذاهباً إلى فرض السيطرة الكاملة على المسجد الأقصى، متوقّعاً أنّ لا ردَّة فعل عربية أو فلسطينية هناك، سوى كثير من عبارات الغضب والاستنكار في بيانات رسمية وغير رسمية مجمّدة، وبعض تظاهرات في الأراضي الفلسطينية يطلقون عليها "أعمال عنف" ستأخذ وقتها وتنتهي.
غير أنّ الفلسطيني المقاوم باغت الاحتلال، وأصدقاءه العرب، ورعاته الغربيين، بأن بادر بفعلٍ غير مسبوق في التاريخ، مستعيداً التعريف الصحيح للكفاح من أجل التحرّر من الاحتلال، على نحو مارسته الشعوب كلّها التي وقعت تحت استعمار في العالم، حقّاً تحميه قراراتُ الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان.
كان المنطق يقول إنّ طوفان 7 أكتوبر (2023) يوفّر فرصةً لا تتكرّر أمام النظام العربي لكي يتحرّر من قيود التبعية للمشيئة الأمريكية، ويتصالح مع شعوبه التي قرأت منذ اليوم الأول أنّ الطريق إلى التحرير قد انفتح، وتصوّرت أنّ بالإمكان أن يسمح لها النظام بالحضور في معركة المصير، غير أنّها سرعان ما اكتشفت أنّ عداء الحكومات العربية للمقاومة لا يقلّ عن كراهية الاحتلال الصهيوني لها، كما عبّر عن ذلك بوضوح وزير خارجية مصر السابق، سامح شكري، أمام منتدى الأمن في ميونخ، المنعقد بعد أربعة أشهر من "الطوفان"، حين قال إنّ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من خارج الإجماع الفلسطيني والاعتراف الإسرائيلي، وإنّه يجب محاسبة من عمل على تعزيز قوّة الحركة في غزّة وتمويلها.
غير أنّه في مقابل هذا التلمظ الرسمي العربي كلّه، من خروج مارد المقاومة من القمقم، كان هناك في قارّات الدنيا الستّ من يقرأ "طوفان الأقصى" على الوجه الصحيح، ليسري تيّارٌ من الوعي حول العالم، لنكتشف أنّنا أمام هزّة وجودية معرفية دفعت الأجيال الجديدة إلى التمرّد على كل ما أُلقِي في رأسها من أوهام وأكاذيب تتصل بتاريخ الصراع. وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ غزّة أهدت العالم ثورةً ثقافية تذكّر بثورة 1986 العالمية، التي امتدت من باريس إلى طوكيو إلى الولايات المتّحدة والبرازيل والجزائر، والبلاد الأفريقية، وحتّى إلى المدن العربية، ضدّ الإمبريالية الأميركية التي تشعل الحروب في كلّ مكان، في ذروة التوحّش الأميركي في حرب فيتنام.
ونحن ندخل العام الثاني من هذه الثورة الفلسطينية الثقافية، لا تزال عواصم العالم تنتفض بمئات آلاف من المتظاهرين تعبيراً عن سقوط رواية الأوغاد الدوليين والإقليميين للسابع من أكتوبر، وتنفض الغبار عن التاريخ الحقيقي المطمور بطبقات متراكمة من الزيف والكذب.
ولذلك كلّه، حريٌّ بنا أن نفخر بهذا اليوم ونحتفل به بوصفه انتصاراً أخلاقياً وثقافياً ومعرفيّاً، لا يقل في أهميته في التاريخ العربي عن 6 أكتوبر (1973)، الذي لا ندري بأيّ وجه يُحتفَل به، ويزعم الانتساب إليه تجّارُ الغاز المسروق من الأرض المحتلّة، العاجزون عن ردّ الإهانة في محور صلاح الدين ومعبر رفح، أصدقاء الاحتلال وشركاؤه، المتربّحون من الصمت أمام جرائم الإبادة في فلسطين ولبنان، باعة الجغرافيا والتاريخ والكرامة.
المصدر: العربي الجديد