ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى الاهتمام بتربية الأجيال الجديدة؛ نظرا للتحديات الكبيرة التي تواجهها بلادنا، وخاصة في هذا الزمن الذي تكالب فيه أعداء الإسلام على أهله، وفي زمن كشّرالشر فيه عن أنيابه، وانتشرتْ فيه وسائل الفساد؛ فكان لزاما على كل أب وأم أن يعطوا تربية أبنائهم أولوية خاصة يقدمونها على باقي الأولويات الأخرى.

ونظرا لأن لكل من الأب والأم دورا هاما في توجيه مسار حياة أولادهم، فإن طريق صناعة الشخصية القيادية يبدأ من حسن اختيار الزوج للزوجة التي ستربي أولادها وفق ثقافتها وأخلاقها وسلوكها، كما يجب على المرأة ووليها حسن اختيار الزوج الذي سيمنح أبناءه الكثير من صفاته الخُلقية والخَلقية.

وقديما قالوا إن وراء كل عظيم امرأة، وهي بالفعل كلمة تثبتها وقائع الأيام، فالمرأة إذا قامت بدورها المطلوب منها تكون خير من يربي الشخصيات السوية والأبطال والعظماء. فكل إنسان ناجح ومؤثر في هذه الحياة خرج من رحم امرأة أثرت في شخصيته تأثيرا إيجابيا، وارتبط بامرأة سكنت قلبه ورافقته في طريق النجاح وتجاوزت معه الصعوبات والتحديات التي لا بد وأن يواجهها كل إنسان.

أثر الأمهات في تربية أبنائهن

لم تكن هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان تمزح حين كانت تأخذ ولدها لتربيته على معالي الأمور، فقد روى المدائني عن صالح بن كيْسان قوله إن بعض متفرسي العرب رأى أم معاوية وهي تقوم بتربيته صغيرا؛ فقال: وكأني أراك تريدين هذا الغلام سيدا لقومه. فقالت هند: "ثَكِلتُهُ إن كان لا يسود إلا قومه".

هناك أيضا السيدة "ليلى بنت عاصم" حفيدة أمير المؤمنين الفاروق "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، وأم الخليفة الراشد "عمر بن عبد العزيز"، كان لها أعظم الأثر في تربية ولدها "عمر" على التقوى والعلم، وورد في شأنها عدة أخبار تصفها بالمرأة المحسنة والتقية، وقد سجل المؤرخون سيرتها في سجل الأمهات الخالدات اللاتي أنجبن عظماء التاريخ الإسلامي.

ومثلها في الفضل السيدة "فاطمة بنت عبدالله" والدة الإمام العلم مؤسس علم أصول الفقه "محمد بن إدريس الشافعي" الذي ولد يتيما في غزة، فلم تمضِ على ولادته غير سنتين حتى تُوفي أبوه، وبقي في كفالة أمه، التي ما انفكت تسعى جاهدة في تربيته وتعليمه بهمة عالية، فأخذته من غزة إلي مكة وهناك تعلم القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، ثم أرسلته إلي البادية ليتعلم اللغة العربية، ثم علمته الفروسية والرماية فكان يضرب مائة رمية لا يُخطئ منها واحدة، ثم نذرت الأم العاقلة ابنها للعلم، تنفق عليها بمغزلها، وتجوب به البلدان، وتقدمه إلى العلماء، وظلَّ الشافعي يقتبس من نبلها وأدبها وحسن فهمها حتى أصبح "كالشمس للدنيا، وكالعافيةِ للبدن"، كما وصفه العالم الفقيه الموسوعي الإمام "أحمد بن حنبل" رحمه الله.

لمثل هذا ربيتك!

ولبيان الدور الكبير للأم في صناعة الأبطال والعلماء الأفذاذ، يكفي أن تقرأ رسالة والدة شيخ الإسلام "أحمد بن تيمية" بعد أن أرسل لها يعتذر عن إقامته بعيدا عنها بمصر بينما هي تقيم ببلاد الشام، لأنه يرى ذلك أمرًا ضروريا لتعليم الناس الدين، فردت على رسالته قائلة: "والله لمثل هذا ربيتك، ولخدمة الإسلام والمسلمين نذرتك، وعلى شرائع الدين علمتك، ولا تظننَّ يا ولدي أن قربك مني أحب إليّ من قربك من دينك وخدمتك للإسلام والمسلمين في شتّى الأمصار، بل يا ولدي إنَّ غاية رضائي عليك لا يكون إلا بقدر ما تقدمه لدينك وللمسلمين، وإني يا ولدي لن أسألك غداً أمام الله عن بعدك عني، لأني أعلم أين، وفيم أنت، ولكن يا أحمد سأسألك أمام الله وأحاسبك إن قصّرت في خدمة دين الله، وخدمة أتباعه من إخوانك المسلمين".

الأم مدرسة التربية

هذه النماذج من العلماء والقادة والمصلحين خرجوا إلى الدنيا يصلحونها بعد أن تخرجوا في مدرسة تربية أمهاتهم الفضليات، وبعد جهد متواصل بالتعليم المتميز والتربية الطيبة التي تكسب صاحبها خبرة ومهارة وقوة الشخصية، بعدما غرست الأمهات في أبنائهن الصفات القيادية من ذكاء وشجاعة وثقة وتواضع وصدق وأمانة وطموح وهمة عالية ونشاط، وغير ذلك من الصفات التي تجعل صاحبها واثقا بنفسه نافعا لغيره.

كل هذه الصفات قد يولد بها الإنسان، وقد يتم تعليمه وتربيته عليها، وهذا أمر يتطلب كثير من الصبر والمثابرة وكثير من الأمل والعمل، وعدم اليأس والاستسلام، لكي يستطيع الإنسان أن يواجه التحديات والصعوبات التي لا بد وأن يواجهها كل إنسان يعيش في هذه الحياة الدنيا.

إن نجاح الأمهات في تخطي العقبات ومواجهة التحديات هي الخطوة الأولى نحو غرس الثقة بالنفسفي أبنائهن، كما أن الطفولة التي يحيط بها بعض الصعوبات تكون خير بيئة ينشأ فيها القادة والأبطال، وتكون خير معلم يُكسب صاحبه الإدراك الواعي بحقيقة الحياة وحجم ما فيها من تحديات.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن التربية على الأخلاق الحميدة والصفات الطيبة لا يتم تربية الأبناء عليها بين عشية وضحاها، بل تتطلب وقتا طويلا، فإن العلم بالتعلم والحلم بالتحلم والصبر بالتصبر والعفة بالتعفف، وهكذا كل الصفات والأخلاق تتطلب أن يتعلمها الإنسان شيئا فشيئا ويتنقل بين مراحلها خطوة خطوة، وهذا يتطلب عدم الاستعجال وعدم اليأس.

وبالنظر إلى نماذج من العلماء والأبطال والقادة والفاتحين الذين غيروا التاريخ، ستجد أنهم يشتركون جميعا في النشأة الطيبة التي أكسبتهم الإيمان الصادق والعلم النافع والنفسية السوية، رغم أن كثيرا منهم نشأوا في بيئات صعبة تعلموا منها الإصرار والكفاح وقوة الشخصية، وأنهم كانوا نتاجا لتفاعل جيل كامل من العلماء والمربين والقادة والمصلحين.