نعرض الفصل الثالث عشر من كتاب الدكتور عبدالكريم زيدان والذي يتحدث فيه حول
سنّة الله في الاستدراج [قانون الاستدراج]
312 ـ معنى الاستدراج في اللغة :
جاء في لسان العرب8 : استدرجه أي أدناه منه على التدريج فتدرج هو .
وفي مفردات الراغب1 : سنستدرجهم معناه نأخذهم درجة فدرجة وذلك إدناؤهم من الشيء شيئاً فشيئاً كالمراقي والمنازِل في ارتفاعها ونزولها .
وفي المعجم الوسيط2 : استدرج الله العبد : أمهله ولم يباغته .
وفي بصائر ذوي التمييز3 : استدرج الله المرء : جرّه قليلاً قليلاً إلى العذاب .
312 ـ معنى الاستدراج عند المفسرين :
أ ـ جاء في تفسير الزمخشري : استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه .
ب ـ وفي تفسير القرطبي : (الاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة)4 .
ج ـ وفي تفسير الآلوسي : الاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعاداً أو بالعكس فيكون استنزالاً5.
314 ـ استدراج الكفرة والعصاة :
قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)6 فمن سنة الله تعالى في عباده الاستدراج .
ومعنى الآية أن الله يستدرج الكفرة والعصاة بأن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازدياد الكفر والمعاصي .
وهم لا يعلمون أي وهم لا يشعرون أن هذا استدراج لهم ، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة لهم مع أنه في نفس الأمر إهانة لهم واستدراج .
(وَأُمْلِي لَهُمْ) أي وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعقوبة ليزدادوا إثماً وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير والإكرام لهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سمى الله تعالى إحسانه وتمكينه للكفرة والعصاة كيداً لما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للسقوط ف الهلكة ووصف كيده بانه متين لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك وأن هذا الهلاك لا يدفعه شيء . وقد قيل كم مستدرج بالإحسان إليه وكم مفتون بالثناء عليه وكم مغرور بالستر عليه7 .
315 ـ استدراج المكذبين :
ومن سنته تعالى في الاستدراج استدراج المكذبين بآياته تعالى ، قال عزّ وجلّ : (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)8 .
والمعنى أن الذين كذبوا بآيات الله ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم (سَنَسْتَدْرِجُهُم) أي سنقربهم إلى الهلاك شيئاً فشيئاً (مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم وذلك بإدرار النعم عليهم مع انغماسهم في الغي والتكذيب ، فكلما جدد الله لهم نعمة ازدادوا بطراً وأشراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم عليهم ظانين أن ذلك من الله إكرام لهم وتقريب لهم منه ، وإنما هذه النعم خذلان منه وتبعيد واستدراج .
(وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم ليزدادوا إثماً (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سمّاه الله تعالى كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وإنعام وفي الحقيقة خذلان ، ثم يأخذهم الله تعالى دفعة واحدة على حين غرّة وهم أغفل ما يكونون9 .
وفي تفسير المنار : الكيد كالمكر ، وهو التديبر الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسؤوه من مخبره وغايته .
ومعنى الآية : أمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين وأمدّ لهم في أسباب المعيشة والقدرة على الحرب كيداً أو مكراً بهم لا حباً بهم ونصراً لهم ، وفي حديث البخاري : (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)10 .
316 : استدراج الأمم :
قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)1 .
وقوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ) أي فلما أعرضوا عما ذكّروا به وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) ، أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون .
قال ابن كثير : وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ولهذا قال تعالى : (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ) من الأموال والأولاد والأرزاق (أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً) أي على غفلة (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير .
وروى الإمام أحمد عن هقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فَلَمَّا نَسُواْ ذُكِّرُواْ بِهِ..) الخ2 .
وفي تفسير الآلوسي في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ) المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكراً بهم واستدراجاً لهم (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ) فرح بطرٍ (بِمَا أُوتُواْ) من النعم ولم يقوموا بحق المنعم (أَخَذْنَاهُم) عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب (بَغْتَةً) أي فجأة (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) أي آيسون من النجاة والرحمة (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) أي استؤصلوا ولم يبق منهم أحد (وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على ما جرى عليهم من النكال والغهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها3 .
317 ـ سنّة الله العامة في المستدرجين :
ومن آيات الاستدراج التي ذكرناها في الفقرات السابقة يتبين لنا أن سنة الله في المستدرجين إمهالهم بعد أن لم يتعظوا بما امتحنهم الله به من صفوف البأساء والضرّاء أو بما امتحنهم به من النعم أو بعد أن كذبوا بآيات الله التي من شأنها أن تحمل المتأمل فيها على الإيمان ، وإن سنة الله تعالى في هؤلاء مدة إمهالهم أن يوسع عليهم الرزق والخيرات ويزيد عليهم الرخاء الذي هم فيه ويعطيهم ما يتمنون من النعم على وجه الاستدراج لهم وزيادة إثمهم لما يقابلون هذه النعم بالمعاصي .
318 ـ ما يجب الاتعاظ به من سنّة الله في المستدرجين :
إن نعم الله تقابل بالشكر ، وهذا هو منهج المؤمنين ومسلكهم في الحياة ، فكل نعمة يعطاها المؤمن يقابلها بطاعة جديدة وشكر جديد ، فإذا غفل عن هذا ونسي شكر النعمة بشكر المنعم فهو مقصر وغافل ، فإذا قابل النعمة بالمعصية فهو مستدرج .
والفاصل بين المقصر والمستدرج خيط دقيق جداً ، فإن المقصر في شكر النعمة غفلة منه وجهلاً قد ينزلق إلى منحدر الاستدراج ، ولذلك كان العارفون يخشون على أنفسهم ((الاستدراج)) وأن يكونوا مستدرجين إذا توالت عليهم النعم مع احتمال تقصيرهم في شكرها فيكون ذلك علامة استدراجهم ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حملت إليه كنوز كسرى : اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً ، فإني أسمعك تقول : (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)4 .
وقال الحسن البصري رحمه الله : كم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه وكم مغرور بالستر عليه5 .
319 ـ الخوف من الاستدراج :
وعلى هذا فينبغي للفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة بمجموعها أن لا يغتروا بنعم الله عليهم وأن يخافوا على أنفسهم من أن يكون تواتر النعم عليهم استدراجاً لهم وليس إكراماً وإنعاماً لهم .
والذي يرجح أن هذه النعم إكرام لهم من الله تعالى مسارعتهم إلى شكرها بشكر المنعم عليها بالقيام بحق نعم الله ووضعها في مواضعها والزيادة في طاعة الله والإتيان بما يحبه من الجهاد في سبيله .