كتب: أشرف الفار
ليس على أهل الحق إلا أن يبذلوا وسعهم، ويجاهدوا جهادهم. عليهم أن يعملوا، وليس بإمكانهم وليس مطلوبًا منهم حصر النتائج والنجاحات، ولا عد النقاط، وحصر الغنائم والإنجازات، فحركة النفوس وتأثرها أعقد بكثير، وأعمق بكثير، وأخفى على الناس، ولا يحيط بعلم ذلك إلا الله.
نعم يجب على أصحاب الدعوات أن يراجعوا خططهم، ويعيدوا النظر والنقد البناء فى وسائلهم، وعليهم أن يستنطقوا مصادر العلم الشرعى والعقلى، ويستهدوا بكل دليل مشروع، يصحح لهم مسارًا، ويغزر له إنتاجًا، ويوفر لهم جهدًا، ويختصر لهم طريقًا، وذلك حق الدعوة على أهلها.
لكنهم ليس مسموحًا لهم أن يقعوا فريسة لأصحاب العقول الصغيرة، والهمم الصغيرة، للمتعجلين، الخوارين، الذين طال عليهم الطريق، وبعدت عليهم الشقة، وأرهقتهم تكاليف الجهاد، وضعفت عن مواصلة السير نفوسهم. ليس لهم أن يسمعوا تشكيكهم ووساوسهم، ليس لهم أن يفقدوا ثقتهم فى طريقٍ كريمٍ مباركٍ، خطه الله- سبحانه- لهم، وسار أماهم فيه رسولهم، واقتدى به قبلهم خيارهم، سلف هذه الأمة الصالحون.
يروى لنا أصحاب السير قصة ذات مغزى كبير، تتصل بما نتحدث عنه، تلك قصة فروة بن عامر الجذامى رضى الله عنه. فقد كان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله "معان" وما حولها من أرض الشام. كان من جند الروم، تابعًا خاضعًا، مثله فى ذلك مثل آلاف العرب فى زمانه.
ثم جاءت غزوة مؤته، وكان فروة فى جيش الروم، يقاتل المسلمين، وقد رأى شجاعة المسلمين، وإيمان المسلمين، رأى بطولات المسلمين، وتضحياتهم، واستشهاد قادتهم. ثم رأى حكمتهم ومهارتهم، وقدرتهم على إدارة هذا الموقف العصيب، ونجاحهم الباهر فى التخلص من تلك المعضلة المهلكة، وقدرتهم على الانسحاب البارع، وفرض معادلتهم- رغم قلة عددهم وضعف عتادهم- على عدوهم كبير العدد عظيم العتاد.
رأى فروة ذلك- وربما أكثر- فتمكن الحق من نفسه، وأسلم لله رب العالمين، وقد اختار فروة أن يعلن إسلامه ويجاهر به، اختار الفخر بما هداه الله، وأبى أن يكتم أمره، ويجعله سرًا. فبعث فروة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسولاً يعلمه بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء.
ولما علم الروم بإسلام فروة، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم، وخيروه بين الردة عن الإسلام أو القتل، فأبى الكفر بعد الإيمان، واختار القتل مستمسكًا بالحق الذى هداه الله إليه، ثابتًا على الإيمان الذى وجد حلاوته فى قلبه، لم يتردد، ولم يداهن، لم يساوم، ولم يضعف، لم يهن، ولم يلن، ولم ينشغل بغير الله، وبغير لقاء الله، وهو الذى لم ير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يعلمه صحابى كثيرًا ولا قليلًا، إنما هو نور الحق الذى قذفه الله فى قلبه، وإسلام الوجهة لله رب العالمين، ثم استقامة على ما هداه الله، ووفاءٌ لتكاليف هذا الإيمان، وثبات عليه.
وقد دفع الثمن لكل ذلك راضيًا، دفع الثمن منصبه وحريته، ثم دمه وحياته، رغبةً فيما عند الله، وأملًا فى اللحاق بأولئك الرهط الكرام الذين رآهم فى مؤتة!
قال ابن إسحاق: عن الزهري أنه لما اجتمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له "عفراء" بفلسطين، ولما قدموه ليقتلوه، قال:
بلغ سراة المسلمين بأنني ** سلم لربي أعظمي وبناني
ترى! هل كان يعلم جنود مؤتة وقادتهم - رضى الله عنهم- بمثل هذا الأمر؟ هل كان ذلك من مستهدفاتهم؟ هل تم تدوين ذلك فى تقويم الغزوة ونتائجها؟
أحسب أن أهل مؤتة الكرام حينما كانوا يقاتلون عدوهم، لم يكن يشغلهم إلا أن يراهم الله مخلصين، وإلا أن يتقبل الله منهم جهادهم ودماءهم، لم يكن يشغل بالهم إلا أن ينصروا الله، ويشاركوا مع السابقين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أن يشاركوهم ملحمة الصراع الطويل الكبير، بين الحق والباطل، لم يكن يشغلهم إلا أن يكونوا من جند الحق، حتى أنهم قرروا خوض قتال غير متكافئ، تكاد تنعدم فيه فرصة للنصر!
لكن الله وحده هو الذى يدير هذا الصراع. الله وحده هو الذى يقرر متى يتنزل النصر، وكيف، وأين، وعلى يد من. لم يشرك الله سبحانه- معه أحدًا فى ذلك، بل قال لرسوله {ليس لك من الأمر شئ}.
ليس على أهل الحق إلا العمل المتواصل، والسعى الدءوب، والثبات على الطريق، حتى يلقوا الله- سبحانه- على ذلك حينها يفرحون، يفرحون حين يتقبل الله سعيهم، ويجزل لهم العطاء، يفرحون حين يخبرهم ربهم بأثر جهادهم، وأثر سعيهم، وأثر أخوتهم، وأثر أخلاقهم، وأثر ثباتهم، وأثر كل جميل علمتهم دعوتهم والتزموا به. يفرحون حين يجدون الناس قد هداهم الله بهم إليه، يفرحون حين يفاجئهم ربهم بكل هذه البشريات.
يفاجئهم لأنهم لا يعلمون، ولا سبيل لهم ليعلموا، لأنه هو وحده الذى يعلم ما تخفى النفوس، وكيف تأثرت، وبمن تأثرت.
فانشغل بما ينفعك! وابذل طاقتك- كل طاقتك- اسع بكل ما فى وسعك، ولا تنشغل عن دعوتك، فـإنها النجاة.