وائل قنديل
حالة الارتباك التي يعيشها النظام المصري هذه الأيام تعبّر عن نفسها بعديد الأساليب والصور، غير أنّ الانعكاس الأكبر لها يظهر على الخطاب السياسي والإعلامي.
الخطاب السياسي، بتلعثمه وركاكته، تتحدّث عنه الركبان، ولا يحتاج لمزيد من الجهد لإدراكه، فضلًا عن أنه بهذه الحال من الضعف والهزال منذ اليوم الأول. أما ما يستحقّ التوقف عنده فهو الحالة المزرية التي تتخبّط فيها الصحافة المصرية منذ أن ارتضت لنفسها أن تكون جزءًا من الآلة السياسية والأمنية للسلطة، بحيث قدّمت نفسها بمنتهى الوضوح والإصرار بوصفها صحافة النظام الحاكم، لا صحافة الشعب المحكوم، التحاقًا بالفكرة الفاشية التي تسيطر على السلطة المؤسّسة على انقلاب عسكري، وهي أنّ البلاد في حالة حربٍ وجوديةٍ ضد أعداء كثيرين، وبالتالي، لا وقت للحرية أو حقوق الإنسان، أو المهنية في القضاء والإعلام، باختصار لا وقت للمنطق وللعدل.
هذا الاندفاع المجنون في هذه الطريق على مدى عشر سنوات أوجد بيئة إعلامية قاتلة للمهنية وللأخلاقية معًا، فصار اعتياديًا أن يباهي صحفيون وإعلاميون بعضهم بعضًا بأنهم أكثر تصفيقًا وتطبيلًا ودفاعًا عن الوطن، الذي هو السلطة الحاكمة، لا الجماهير المحكومة، وفي ذلك يحفل أرشيف السنوات العشر الماضية بعديد الفيديوهات التي ينهر فيها المذيعون الجمهور المتلقّي، ويتهمونه بالجشع وانعدام الوطنية حين يعلن تذمره من انتقاص الحقوق الأساسية له أو تجاهل الخدمات التي يدفع ثمنها من لحمه الحي.
في مقابل ذلك التجهّم وإظهار العين الحمراء للمواطن المسحوق، تجد أشكالًا من الليونة والغنج المهني في الحديث عن السلطة، بلغت حدّ تقديس الحاكم في كثير من الأحيان، إذ صارت الغاية هي تطويع الشعب لخدمة السلطة، لا الدفاع عن حقوق الشعب لدى هذه السلطة، ومن أجل إدراك هذا الهدف جرت عملية واسعة النطاق للسيطرة التامة على المنافذ الإعلامية، المقروءة والمرئية، من الأجهزة الأمنية، التي باتت تهيمن على مفاصل هذه المؤسسات وتسيّر خطابها وخطها المهني وتستحوذ عليها استحواذًا كاملًا.
من الطبيعي في هذا المناخ أن تتراجع المهنة وتهبط إلى مستوياتٍ مخيفة، تعبّر عن فقدان الإعلام احترامه مهنيته، وأيضًا فقدانه للرغبة في نيل رضا الجمهور أو حتى وضعه في الاعتبار، بعد سنوات كان فيها هؤلاء الإعلاميون الذين يزدرون المهنة الآن يخاطبون المتلقي بعبارة "سيدي القارئ"، ويتنافسون في فنون النفاق والمماحكة، زاعمين إنهم لا يشتغلون عند أيّ سلطة، سياسية أو أمنية أو مالية، بل يشتغلون عند القارىء، وحده الذي له حق مساءلتهم وتقييمهم.
مدهشٌ حقًا في هذه الأجواء الخانقة ألا يستشعر محرّر حرجًا أو غضاضًة وهو يمضي يومه كلّه في العمل على تحرير مواد وصياغة عناوين عن الإطلالة المثيرة لفنانة هنا، أو المعركة المحتدمة بين مطربتين هناك، في إطار المجهود الوطني العظيم لتدمير منطق وذائقة التلّقي عند الجمهور، والانحطاط بهما إلى قاع الإسفاف والابتذال.
في هذه المتاهة التي تبتلع المهنة في مصر، لم يعد ما للصحافة للصحفيين، بل صارت الصحافة والصحفيون لذلك المسئول الأمني الذي يُمسك بكلّ الخيوط ويحرّك كلّ الخطوط، حتى صار من الصعب حقًا حين تطالع عناوين ومضامين ساذجة وساقطة مهنيًا، أن تحدّد مَن الكاتب، أهو ذلك الجالس في مقعد مسئول التحرير، أم أباه الذي في الجهاز؟
يحضر هنا غلاف لواحدة من أعرق المجلات الأسبوعية في الصحافة المصرية، هي روز اليوسف، التي كانت مضرب المثل في روعة الصياغة والتفوّق في صنعة التقاط العنوان، أرادت أن تقوم بوظيفتها في الطبل والزمر لرأس النظام لمناسبة دعوات للتظاهر ضده، فأسقطت نفسها في حفرة مهنية سحيقة، حتى تخيّلت أنّ أحد الأشرار استخدم شعار المجلة في التزييف والتلفيق، للسخرية من الجنرال، غير أنه تبيّن أنّ الموضوع جدّي وليس نكتة، إذ يحمل غلاف العدد رقم 4924 بتاريخ 29 أكتوبر/ تشرين ثاني 2022 صورة بالطول والعرض للسيسي، وعليها عنوان كبير يقول: "الحق حق وإن لم يتبعه أحد والباطل باطل وإن اتبعه الجميع. #100 مليون معاك يا سيسي".
ولمّا كان مجموع تعداد المصريين المعتمد رسميًا في الإعلام هو مائة مليون، فإن المفهوم بداهة من العنوان أحد أمرين، أو أنّ القراءة المنطقية الصحيحة لهذا الغلاف بعناوينه تقود إلى استنتاجين لا ثالث لهما: إما أنّ المحرّر يرى أن السيسي هو الحق الذي لا يتبعه أو يؤيده أحد. أو أنّ المحرّر يرى أنّ السيسي هو الباطل المؤّيد من جميع المصريين (100 مليون مصري)، وفي ذلك اتهام بشع للشعب المصري.
هكذا يفعل الإعلام بنفسه، حين يطغى التفاني في تقديس الحاكم على الاجتهاد في احترام المهنة، عليها رحمة الله.
المصدر: العربي الجديد