لا شك أن أهل الصدق والثبات من أصحاب الدعوات، ترى في فلتات ألسنتهم، وخفقات قلوبهم، ونظرات عيونهم، وعزمات جهودهم؛ ما يدلك على مدى حبهم لدعوتهم، وارتباطهم بمنهجهم، وحرصهم الدائم على افتداء فكرتهم.

إن قلوب الصادقين تنبض بحب دعوتهم، يعيشون لها وبها، تجري في عروقهم، لا تفارقهم، فهي معهم في حلهم وترحالهم، في غناهم وفقرهم، في قولهم وفعلهم، في ضيقهم وسعتهم، في أفراحهم وأتراحهم، في استضعافهم وتمكينهم، فلا عجب في ذلك فهي دعوة ربهم ونهج نبيهم.

لذلك من تكلموا عن الإمام حسن البنا قالوا: «كان الرجل يفيض قلبه حبًا وإخلاصًا لدعوته، فقد عاش بها ومات في سبيلها».

ومن دلائل حب الإخوان لدعوتهم وارتباطهم بها؛ أنهم لا يبخلون على دعوتهم بجهد، أو وقت، أو مال، وقد عبر الإمام البنا عن هذه الحالة في رسالة المؤتمر الخامس فقال: «ألا فليعلم هؤلاء وليُعلِموا غيرهم أن الإخوان المسلمين لا يبخلون على دعوتهم يوماً من الأيام بقوت أولادهم، وعصارة دمائهم، وثمن ضرورياتهم، فضلاً عن كمالياتهم والفائض من نفقاتهم، وأنهم يوم حملوا هذا العبء عرفوا جيداً أنها دعوة لا ترضى بأقل من الدم والمال، فخرجوا من ذلك كله لله، وفقهوا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) التوبة 111،  فقبلوا البيع وقدموا البضاعة عن رضاً وطيب نفس، معتقدين أن الفضل كله لله، فاستغنوا بما في أيديهم عما في أيدى الناس».(1)

وإنك لتلمس هذا الحب والفداء في أوقات المحن والشدائد، بالصبر والثبات رغم كثرة الخطوب، ووعورة الدروب؛ فتراهم يتمسكون بدعوتهم ويلتفون حول قيادتهم، رغم الصوارف والفتن والمغريات والمحن. فتراهم يعبرون عن حبهم فينشدون: 

يا دعوتى سيرى سيري سيري .. كل الوفاء لكِ وكل تقديري

ما يوقفك ظالم أو غدر شرير .. وأنتِ يا دعوتنا في الشدة سلوتنا

يا دعوتي أنتِ روحي ووجداني .. كل البشر يفنى وانتِ شيء ثانِ

بالدم أفديكِ أنا وإخواني .. نفديكِ بالملايين .. باقية ليوم الدين

ومن التوجيهات البليغة التى تعرضت لهذا المعني بشكل واضح، ما كتبه الشهيد عبد القادر عودة للإخوان في بيانه الشهير (هذا بيان للناس)، والذى اشتمل على كثير من التوجيهات التربوية للإخوان، مع بداية الهجمة على الدعوة في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، حيث ذكر في  بيانه ما يلي:

«والتوجيه الأخير للإخوان: أن يُحسنوا صلتهم بالله وبإخوانهم، وأن يترابطوا على أمر الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يصبروا ويُصابروا، وأن يعلموا أن جماعة الإخوان المسلمين لا تحل على الورق، ولا بغلق الدور، وإنما تحل بانحلال ترابطهم، وفراغ قلوبهم من حب إخوانهم وحب الدعوة، ولن يكون حل ما دامت تنبض بحب الدعوة قلوبهم، وتخفق مع ذكر الله مشاعرهم، وما داموا قد وهبوا أنفسهم لها، يحيون فيها، ويعيشون بها ولها، ويضحون في سبيلها». (2)

نعم .. صدق الشهيد عبد القادر عودة – رحمه الله – وأبان في بيانه الهام، فدعوة الحق في حنايا الصدور لا في المقرات والدور، وهي كالدماء تجري في عروق الصالحين المصلحين. لا تتوقف بقانون رسميّ أو قرار ورقيّ، فهي روح تسرى في القلوب فتحييها بالقرأن.

وطالما الروح موجودة، والأيادي بالعهد ممدودة، والصفوف بالحب مشدودة، فلا يُضير الدعوة غلق دار ولا إصدار قرار، فدار الدعوة هي بيت كل عضو فيها. أما قرار حلها على الأوراق الرسمية فلا يتجاوز – في نفوس الإخوان الأحرار – قيمة المداد الذي كُتب به، لأنها دعوة الحق الباقية ببقاء الحق، ونوره بين خلقه، فكيف يحلها قرار؟ أو يُطفئ نورها جبار؟

وها هو التاريخ يُخبرنا ويؤكد ذلك، فقد مات وفني من أصدروا قرار حل الجماعة، وبقيت هي شامخة أبيّة، ترفرف رايتها فى ربوع الأرض. وتُفتح لها وبها البلاد وقلوب العباد. ورحم الله شهيد القرآن – الأستاذ سيد قطب – يوم قال: «بقيّ الإخوان وذهب الطغيان».

وتوقفت أيضاً أمام بيتين من الشعر للأستاذ سيد قطب – رحمه الله – فيها من البلاغة والدلالة ما فيها، وفيها من الارتباط بالدعوة ما فيها، وفيها من العلاقة المصيرية بين الدعوة والدعاة ما فيها، حيث قال:

قد اختارنا الله في دعوته .. وإنا سنمضي على سنتـه

فمنَّـا الذين قضوا نحبهم .. ومنـا الحفيظ على ذمتـه

نسأل الله سبحانه أن يستعملنا في خدمة دينه والعمل لدعوته مخلصين له الدين، وأن يرزقنا الاستقامة على أمره وأمر رسوله ﷺ ما حيينا، وأن نحيا على طريق دعوتنا أعزاء، وعلى ثوابتها ومبادئها أُمناء، وببيعتها أوفياء، وأن نقضي نحبنا في سبيلها شهداء، وبصحبة رسوله فى الجنة سعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.

(1) رسالة المؤتمر الخامس للإمام حسن البنا، ذى الحجة 1357هـ، الموافق فبراير 1939م.

(2) المصدر: البيان التاريخي للشهيد عبد القادر عودة بعنوان: (هذا بيان للناس).