لا شك أن النفس من الميادين الأولى بالرعاية والأحق بالتزكية، ولذلك كان (العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا)، وميدان النفس هو أول ميادين الكفاح، وأول مراتب التغيير والإصلاح، ومنطلق التأثير والنجاح. ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (11)﴾ سورة الرعد.

فمن واجبات الإنتساب لدعوة الحق والسعي بين الناس بالإصلاح والرشد، أن يرعي الداعية والمصلح نفسه ويزكيها وينميها ولا يُهملها وينشغل عنها، ففي إهمالها مفسدة كبيرة، لذلك نجد الإمام حسن البنا يؤكد على هذه المعنى وهو (متطلبات الانتساب الحق للدعوة) فيقول:

«أيها الاخوة الفضلاء: إن الله ميزكم بالانتساب إلى الدعوة، فاحرصوا على التميز بآدابها وشعائرها بين الناس، وأصلحوا سرائركم، وأحسنوا أعمالكم، واستقيموا على أمر الله، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وتوجهوا بالنصيحة في رفق ولين إلى الناس أجمعين، واستعدوا للبذل والاحتمال والجهاد بالنفس والمال، وأكثروا من تلاوة القرآن، وحافظوا على الصلوات في الجماعات، واعملوا لوجه الله تعالى مخلصين له الدين حنفاء، وانتظروا بعد ذلك تأييد الله وتوفيقه ونصره، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج : 40)» (1)

وصاحب الدعوة لابد أن يعي أمراً قد يغفل عنه الكثيرون، ويهتم بشأن قد يهمله الآخرون، ألا وهو (كسب النفس أولاً) ورعايتها وعدم خسارتها وتضييعها، فهو كداعية مهمته الأساسية أن يربح نفسه أولاً ويحسن إلى نفسه أولاً، وإلا فما قيمة أن يربح الدنيا وما فيها من مناصب ومغانم ويخسر نفسه، والقرآن الكريم يوضح لنا أن الرابح الحقيقي يوم القيامة هو الذي ربح نفسه ولو خسر الدنيا وما فيها، يقول الله تعالي: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45)). سورة الشوري

نعم .. أنت كمسلم وداعية مطالب في البداية أن تربح نفسك في عباداتك ومعاملاتك، في حركاتك وسكناتك، في قولك وفعلك، في أمرك ونهيك، في بذلك وجهدك، وفي كل أحوالك وأعمالك، حين تكون بمفردك أو مع غيرك. إنها النفس الأولى بالرعاية والأحق بالكسب لا الخسران.

ولهذا كان الصحابة والتابعين يراقبون نفوسهم جيداً ويحزمون الأمر معها حتى لا تحيد، فهذا حذيفة بن اليمان صلى يوماً بالناس فلما سلم من صلاته قال لهم: «لتلتمسن إماماً غيري أو لتصلن وحداناً، فإني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل منى». إنها المراقبة الدقيقة للنفس والاستجابة السريعة لأحوالها. وهذا الخليفة عمر بن عبد العزيز يقول لعمرو ابن مهاجر: «يا عمرو إذا رأيتنى قد ملت عن الحق فضع يدك في تلا بيبي ثم هزني ثم قل ماذا تصنع؟»

وهذا أبو مسلم الخولاني – رحمه الله – كان حازماً مع نفسه، فقد علق سوطاً فى بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه : قومي، فوالله لأزحفن بك زحفاً إلى الله، حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا فتر وكلَّ وتعب تناول سوطه وضرب رجله ثم قال: «أيظن أصحاب محمد ﷺ أن يستأثروا به دوننا ؟ كلا والله لنزاحمنهم عليه زحاماً، حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً».         

ميدانكم الأول أنفسكم

يقول سيدنا على بن إبي طالب – رضي الله عنه: «من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم».

يقول الإمام حسن البنا في أحد توجيهاته: «يا شباب الإخوان المسلمين: ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم فى جهادها كنتم عما سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولاً، واذكروا أن الدنيا جميعاً تترقب جيلاً من الشباب الممتاز بالطهر الكامل والخلق الفاضل، فكونوا أنتم هذا الشباب ولا تيأسوا.» (2)

ومن وصاياه ذات يوم في حديث الثلاثاء: «علينا أن نتهم بأنفسنا دائماً، وأن تكون عنايتنا بها كعناية الرجل صاحب الإستجابة السريعة والحاسة القوية، إذا استشعر ارتفاعا طفيفاً في حرارة جسمة أن يعرض نفسه على الطبيب».

التحذير من الرضا عن النفس

يقول الله تبارك وتعالي: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)) سورة النساء. ويقول عز من قائل: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32)) سورة النجم. وقال ﷺ: «من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان» رواه أحمد. ولذلك خاف النبي على الصحابة أن تضعف نفس أحدهم فقال: «والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه» متفق عليه، لان الذي يطلب الأمر يزكى نفسه ويحسن الظن بها فيخسر نفسه (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ).

يقول ابن عطاء الله السكندري – رحمه الله: «أصل كل معصية وشهوة وغفلة الرضا عن النفس وأصل كل طاعة وعفة ويقظة عدم الرضا منك عنها ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه».

وقال الفضيل ابن عياض – رحمه الله: «علامة الزهد في الدنيا وفي الناس، أن لا تحب ثناء الناس عليك، ولا تبالي بمذمتهم، وإن قدرت ألا تعرف فافعل، ولا عليك ألا تعرف، وما عليك ألا يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إن كنت محموداً عند الله.» (3)

وقد أورد الإمام ابن القيم – رحمه الله – في المدارج ما يتعلق برضا العبد عن نفسه في مجال الطاعات فقال: «رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه وجهله بحقوق العبودية وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به، وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها، فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه.» (4)

إن الداعية مطالب بتربية نفسه قبل تربية الآخرين، وبمحاسبة نفسه قبل محاسبة الآخرين، وبالإحسان إليها قبل الإحسان إلى الآخرين. لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفي ذلك يقول الإمام حسن البنا – رحمه الله: «يا أخى : فاقد الشيء لا يُعطيه، والقلب المنقطع الصلة بالله كيف يسير بالخلق إليه، والتاجر الذى لا يملك رأس المال من أين يربح، والمعلم الذى لا يعرف منهاجه كيف يُدرسه لسواه، والعاجز عن قيادة نفسه كيف يقود غيره.» (5)

———————————

(1) من توجيهات الإمام البنا، نشرت في جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (720)، السنة الثالثة، 3 ذو القعدة 1367هـ – 6 سبتمبر 1948م

(2) من توجيهات الإمام حسن البنا، نُشرت في جريدة (الإخوان المسلمون) تحت عنوان (توجيهات)، بتاريخ (26 ذو القعدة 1361 هـ، الموافق 5 ديسمبر 1942م).

(3) حلية الأولياء، [8/90]

(4) مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، [1/175]

(5) من مقال للإمام حسن البنا، بعنوان (سبيل الظفر. عبادة ثم قيادة)، نُشر في جريدة (الإخوان المسلمون) بتاريخ (25 ربيع الأول 1356 هـ، الموافق 4 يونيو 1937م).