الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، ورحمة الله للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد،،،إن أعظم ولاية وأقواها وأوثقها وأبقاها وأنفعها للعبد هي ولاية الله له، فبها يحيا العبد في كنف ربه ومعيّة مولاه. وولاية الله لعبده تُغنية وتكفيه عن أي ولاية أخرى من دون الله، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: 45] ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14].وأهل الإيمان والتقوى، الصالحون المصلحون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، لهم ولاية خاصة من ربهم، ينالون بها الأمن والطمأنينة في الدنيا، والفوز العظيم والنعيم المُقيم في الآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257] وقوله: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68] وقوله: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 19]. وهي ولاية ينالها المؤمن بإيمانه، ويحرم منها الكافر بكفره، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11].

ومن يتولاهم الله من عباده لا يجعل للشيطان سلطاناً عليهم، فهم في حفظ الله ومعيته، ينصرهم ويرعاهم، إنما سلطانه – إي الشيطان – على الذين يتولونه، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 98 – 100] فهم قد عصموا منه بولاية الله تعالى لهم ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196].(وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ):توقفت أمام هذه الآية وتأملت فيها، فاستشعرت من تدبرها، وكأن رسول الله ﷺ يقول لنا: إن وليِّيَ الله، الذي يتولى حفظي ونصري، هو الذي نزَّل عليَّ القرآن بالحق، وهو يتولى الصالحين مِن عباده، وينصرهم على أعدائهم ولا يخذلهم.كما استوقفني في هذه الآية الكريمة، أن الولاية جاءت هنا بصيغة الفعل المضارع، وفي ذلك دلالة على أن نُصرة الله لعباده الصالحين، وحفظه إياهم، ورعايته لهم، مستمرة لا تنقطع. دعونا نستعرض ما ذكره بعض المفسرون حول قوله تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾، حتى نقف على ما فيها من إرشادات ومعاني.* يقولُ ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – في تفسيرِه لها: «أَيْ اللَّهُ حَسْبِي وَكَافِينِي، وَهُوَ نَصِيرِي وَعَلَيْهِ مُتَّكَلِي وَإِلَيْهِ أَلْجَأُ وَهُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ وَلِيّ كُلِّ صَالِحٍ بَعْدِي».

* ويقول القرطبي – رحمه الله – في تفسيرها: «أي الذي يتولى نصري وحفظي الله. وولي الشيء: الذي يحفظه ويمنع عنه الضرر». 

* ويقول الطبري – رحمه الله – فيها: «قُلْ يَا مُحَمَّد لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَأن: إِنَّ وَلِيِّيَ نَصِيرِي وَمُعِينِي وَظَهِيرِي عَلَيْكُمْ اللَّه الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَأب عَلَيَّ بِالْحَقِّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مَنْ صَلُحَ عَمَله بِطَاعَتِهِ مِنْ خَلْقه».

* ويقول السعدي – رحمه الله – فى تفسيرها: «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الذي يتولاني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار. الَّذِي نـزلَ الْكِتَأبَ الذي فيه الهدى والشفاء والنور، وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية. وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم، كما قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فالمؤمنون الصالحون – لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر – تولاهم اللّه ولطف بهم وأعانهم على ما فيه الخير والمصلحة لهم، في دينهم ودنياهم، ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)».* ونختم بخواطر الشعراوي – رحمه الله – حول قوله: (وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰالِحِينَ)، حيث أن له لفتات وإسقاطات وتوجيهات طيبة فى خواطره الإيمانية يقول – رحمه الله -: «أي أنه لا يجعل الولاية خصوصية للرسول ﷺ، بل يقول لكل واحد من أتباعه: كن صالحًا في أي وقت، أمام أي عدو، ستجد الله وهو يتولاك بالنصر، وساعة يعمم الله الحكم؛ فهو ينشر الطمأنينة الإيمانية في قلوب أتباعه ﷺ.

وكل من يحمل من أمر دعوته ﷺ شيئا ما سوف يكون له هذا التأييد، وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغًا عنه المنهج، وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة الكون؛ لأن الله قد جعل الإنسان خليفة ليصلح في الكون، وأول مراتب الإصلاح أن يبقى الصالح على صلاحه، أو أن يزيده صلاحًا إن أمكن».

حال الخليفة عمر بن عبد العزيز مع هذه الآية

وهذا سيدنا عمر بن عبد العزيز (خامس الخلفاء الراشدين) – رضي الله عنه – يتعايش مع قوله تعالى: (إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَأبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين)، فقد قيل له وهو على فراش الموت: هؤلاء بنوك، وكانوا اثني عشرَ، ألا توصي لهم بشيءٍ فإنهم فقراءُ، فقال: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ). واللهِ لا أعطيتُهم حقَّ أحدٍ، وهم بين رجلينِ: إما صالحٌ فاللهُ يتولى الصالحينَ، وإما غيرُ صالحٍ فما كنتُ لأعينُه على فسقِه ولا أبالي في أي وادٍ هلكَ، ولا أدعُ له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت، ثم استدعى أولادَه فودَّعَهم وعزَّاهم بهذا وأوصاهُم بهذا الكلامِ، ثم قالَ: انصرفوا عصمَكم اللهُ، وأحسنَ الخلافةَ عليكم.قالوا: فلقد رأينَا بعضَ أولادِ عمرِ بنِ عبدِ العزيزِ يحملُ على ثمانينَ فرساً في سبيلِ اللهِ، وكانَ بعضُ أولادِ سليمانَ بنِ عبدِ الملكِ مع كثرةِ ما تركَ لهم من الأموالِ يتعاطى ويسألُ من أولادِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ؛ لأن عمرَ وَكَلَ ولدَه إلى اللهِ – عز وجل -، وسليمانُ وغيرُه إنما يَكلِونَ أولادَهم إلى ما يَدَعُونَ لهم، فيَضيعونَ وتذهبُ أموالهُم في شهواتِ أولادِهم.وصية مقاتل بن سليمان للخليفة المنصوردخل مقاتل بن سليمان – رحمه الله – على الخليفة أبو جعفر المنصور – رحمه الله -، يوم بُويعَ بالخلافة.

فقال له المنصور : عِظني يا مقاتل!

فقال: أعظُك بما رأيت أم بما سمعت؟

قال: بل بما رأيت. (*)

قال: يا أمير المؤمنين! إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولداً وترك ثمانية عشر دينارا، كُفّنَ بخمسة دنانير، واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه.وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولداً، وكان نصيب كلّ ولد من التركة ألف ألف دينار.(أي مليون)

والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت في يوم واحد أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أبناء هشام يتسول في الأسواق.وقد سأل الناس عمر بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت: ماذا تركت لأبنائك يا عمر؟

قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى؛ فتأمل يا أخي .. كثير من الناس يسعى ويكد ويتعب ليؤمن مستقبل أولاده ظناً منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم، وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.لذلك وجب على كل ذى عقل يقظ وقلب حيّ أن يكون صالحاَ فى نفسه، ويجتهد فى إصلاح أهله وولده ومن حوله، لأنه من ثمار ذلك أن يحفظك الله ويتولاك فى نفسك وأهلك وولدك، لأن صلاحك الذى هو سبب فى ولاية الله لك، لا يقف أثره النافع عندك، بل يمتد إلى ذريك وعقبيك، ألم تقرأ قول الله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا). اللهُ أكبرُ، لأجلِ صلاحِ أبيهما يحفظُ اللهُ – تعالى – لهما كنزَهما، ويرسلُ لهما خيرَ من على الأرضِ في ذلك الزمانِ، ليصلحا الجدارَ، حتى لا يسقطَ ويظهرَ كنزُ الغلامين اليتيمين، فيأخذَه أهلُ القريةِ. فهل بعدَ هذا يرتابُ من يتلوا قولَه تعالى: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).لهذا قال سعيد بن المسيب – رحمه الله – يوماً لابنه: «لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك».  

وقال عمرُ بن عبد العزيز: «ما من مؤمن يموتُ إلاَّ حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبه». وقال ابن المنكدرِ: «إنَّ الله ليحفظُ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولده والدويرات التي حوله فما يزالونَ في حفظ من الله وستر».أخى الحبيب: ما عليك إلا أن تحقق الصلاح والاستقامة في نفسك، وأن توقن بأن الله هو وليك، فإن فعلت فلن يُخزيك وليك أبدأً، فهو وعد ووعده الحق أن يتولى الصالحين.

فهنيئًا لكم أيها الصالحونَ عنايةَ اللهِ – تعالى – بكم، وتدبيرَه لأمورِكم، واختيارَه ما يَصْلُحُ لكم، سواءً كانت تلكَ الأقدارُ مُفْرِحةً في أعينِكم أو مؤلمةً، وسواءً كانت ظاهِرةً لكم أو مُبْهَمةً، فالخيرُ كلُ الخيرِ أن يكونَ اللهُ – تعالى – الذي يعلمُ غيبَ السمواتِ والأرضِ ويعلمُ ما كانَ وما يكونُ هو من يتولى شئونَك، ويختارُ لك. وصدقَ أبو العتاهيةِ حينَ قالَ:وَإِذَا العِنَأيَةُ لاَحَظَتْكَ عُيُونُهَا *** نَمْ فَالمَخَأوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَأنُوآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين————(*) : يعلق الشيخ محمد متولى الشعراوي على قول الخليفة (بل بما رأيت) فيقول: ذلك أن السمع أكثر من الرؤية، فالرؤية محدودة ومقصورة على ما تدركه العين، لكن السمع متعدد؛ لأن الإنسان قد يسمع أيضًا تجارب غيره من البشر.فالذي يراه الإنسان إنما يرى ما كان موجوداً في زمانه وفي جيله, والمعرفة التي تعتمد على الرؤية أقل وأضعف بكثير من المعرفة التي تعتمد على السماع, فالإنسان يسمع عن أخبار وتجارب لا تحصى, فهو يطلب من الأمير أن يحدثه عما سمع أو عما رأى, فأراد الأمير أن يضيق على نفسه حتى لا تطول الموعظة, قال: حدثني بما رأيت, عظني بالأشياء التي رأيت.