المنعطفات الكبرى في حياة الدعاة

الزواج -المنعطف الأول

على دروب الحياة عقبات كثيرة، ومنعطفات خطيرة، تعترض سبيل الدعاة إلى الله، وتتهدد مصير العاملين للإسلام ...لكن الإعداد السليم والتوجيه القويم ودوام التحذير والتذكير من شأنه أن يكسب الأفراد مناعة تقيهم غوائل الانحراف والتردي وتعدهم على الزمن لمواجهة مفاتن الدنيا ومغرياتها .

والواقع ..أن أكثر الدعاة في هذه الزمن تنقصهم المناعة النفسية القوية تجاه الإغراء والإغواء ...فالأفكار والمفاهيم تبقى شعارات ونظريات فارغة ما لم يعد أصحابها والمؤمنين بها إعداداً علمياً حسياً يتناسب مع كل ما ينتظرهم في غدهم وفي مستقبل دعوتهم من مفاجآت....وما لم تتجسد في حياة الدعاة قيم الدعوة ومثلها ..ويصبح الإسلام لديهم مقياس كل حكم، ومفتاح كل قضية، ومصدر كل تصور؛ فلن يطول بهم الزمن حتى يميل بهم الهوى وتبعث بهم النزوات ...

ومما يزيد المشكلة حدة أن دعاة الإسلام يعيشون في (مجتمع جاهلي ) لا يمت إلى جوهر الدين بصلة ...المجتمع تحلل من كل القيم والمثل ..وتعطلت فيه حواس الخير ..مجتمع ازدحمت فيه عوامل الإفساد حتى أصبح التهتك والإباحية عنوان التقدم والتحضر، وغدا التورع والتدين رمز الرجعية والتأخر ....

فإذا لم يكن دعاة الإسلام على جانب كبير من عمق العقيدة، وسمو الخلق، وقوة الإيمان ..وإذا لم يكونوا شديدي المحاسبة لأنفسهم ...دائمي المراقبة  لربهم ..متورعين عن الشبهات ...مقبلين على الطاعات .حريصين على النوافل والعبادات فسيصابون حتماً بلوثات هذا المجتمع ..وسينالهم نصيب كبير من شذوذه وانحرافه .

وفي هذه العجالة سأتناول بالبحث أخطر منعطفين في حياة الدعاة، وكيف يمكن تجاوزها بأمان وسلام بإذن الله ...

المرأة ....المنعطف الأول:

تلعب المرأة في حياة الدعاة - بل في حياة الناس أجمعين -دوراً بالغ الأثر ...فهي إما أن تكون مصدر نعمة أو مبعث نقمة .

وفي حياة (الدعوة ) صور عديدة لكلا الحالتين ...فمن الدعاة من حسن بعد الزواج إسلامهم، واستقام خطوهم، وكثر إنتاجهم، ومنهم من تردت بعد الزوج حياتهم فساء إسلامهم، وفسدت أخلاقهم، ثم انطوى ذكرهم عن مسرح الدعوة ووجودها .

ولاشك أن لكل نتيجة من هذه النتائج أسبابها ومسبباتها وكما يقول المثل :(البعرة تدل على البعير )..فالذين فشلوا في زواجهم هم الذين لم يتقيدوا (بإسلامية ) الزواج وشرائطه من أول الطريق ..فأعمتهم المظاهر عن الجواهر وشغلتهم القشور عن اللباب ...فوقعوا في شر فعلتهم وندموا ولكن بعد فوات الأوان .

وصيانة للحياة الزوجية من مثل هذه الانتكاسات، وضع الإسلام القواعد والأسس الكفيلة بتحقيق إسلامية بيت الزوجية وسعادة أفراده وصلاح ذريته . وإليكم أهم هذه القواعد والأسس :

سلامة القصد :

حرص الإسلام على أن يكون القصد الأول من الزواج: استكمال الدين مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :(من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي ) وفي رواية للبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :(إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي ).

وحرص الإسلام كذلك على أن يكون الزواج  عاملاً أساسيا .في تحصين النفس وتزكيتها ودفعها في طريق الطاعة والتعفف . فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم :(يا معشر الشباب ..من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ).

يقول أفلاطون : إن الإنسان في قلق دائم وضجر مستمر أو ينضم ثانية إلى جزئه المفصول وشطره المعزول ..فإذا انضم أحد الشطرين إلى الآخر بالزواج كان زواجاً مباركاً ميموناً ....وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم :المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء  والناكح الذي يريد العفاف ).وكذلك حرص الإسلام على أن يكون القصد من الزواج :بناء البيت المسلم ليكون (اللبنة الصالحة ) وحجر الأساس في بناء المجتمع الإسلامي... والقرآن الكريم يعتبر هذا أمنية غالية من أماني المؤمنين حيث يصفهم بقوله: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً} . أما إذا كانت رغائب (الجنس ) مقاصد المتزوجين ..فستصبح الحياة الجنسية لديهم عبادة، ويصبحون هم بالتالي لها عبيداً...

حسن الاختيار :

ولقد أكد الإسلام أول ما أكد على حسن اختيار شريكة الحياة ورفيقة العمر، واعتبر حسن الاختيار من عوامل تحقيق (إسلامية )الحياة الزوجية ومن تباشير الوفاق والأنس بين الزوجين فقال لرسول صلى لله عليه وسلم :(تخيروا لنطفكم فإن العرق نزاع وفي رواية دساس ).

ونحن وإن سلمنا بصعوبة وجود (الفتاة المسلمة )في حاضرنا الاجتماعي غير أن حسن الاختيار سيحقق الأمثل فالأمثل .وقد لا نعدم وجود القابليات والاستعدادات الطبية إن عدمنا وجد العناصر النسائية المطلوبة . الإسلام أكد على توفر الخلق والدين كشرط أساسي لحسن الاختيار: وحذر من مغبة السعي وراء الجمال والمال والنسب .وبين  أن جمال الخُلق أبقي من جمال الخَلق ..وأن غنى النفس أثمن من غنى المال فقال عليه السلام: (لا تزوجوا النساء لحسنهن؛ فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن؛ فعسى أموالهن أن يطغيهن ..ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة خرماء خرقاء ذات دين أفضل ).

وحبذا لو يتوفر في المرأة جمال القلب والقالب .فهي عندئذ خير النساء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خبر نسائكم من إذا نظر إليه زوجها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته في نفسه وماله ) ‎.

فليحذر الإخوة الذين يفتشون عن الأشكال قبل الخصال وعن الأموال دون الخلال..ليتمثلوا أوامر الإسلام، وليكافحوا رغائب الشيطان في نفوسهم، وليستجيبوا داعي الله فيهم: {وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله}.

ثم ليعتبروا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تزوج امرأة  لعزها لم يزده الله إلا ذلاً ، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقراً،  ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة .ومن تزو ج امرأة لم يرد به إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو وصل رحمه بارك الله له فيها وبارك له فيه ).

لا تفريط ولا إفراط :

وحذر الإسلام كذلك من عاقبة الانسياق وراء الشهوة والإسراف في العلاقات الجنسية ليحافظ بذلك على شعلة العقول من أن تطفئها رياح الشهوات، وصيانة للنفوس من أن تستعبدها الغرائز والنزوات؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( النساء حبائل الشيطان، ولولا الشهوة لما كان للنساء من سلطنة على الرجال ) وصدق إبراهيم بن أدهم حيث يقول: (من تعودوا أفخاذ النساء لم يحي منهم شيء )أي لا يرجى منهم خير ..ويكفي أن يعرف الأزواج مدى ما يسببه العمل الجنسي من اختلال عميق في كافة وظائف الجسم حتى يعدلوا عن الإسراف ويحرصوا على التوسط والاقتصاد يقول الدكتور (ج.مايلان ):إن نبضات القلب تتسرع حتى تكاد تبلغ 15.. نبضة في الدقيقة الواحدة والضغط الشرياني يسجل  هو الآخر ارتفاعا هائلا قد يصل إلى الحد الأعلى أما التنفس فانه يضاعف سرعته هو الآخر والدورة لدموية الدماغية لا تسلم كذلك من هذا لتغيير الطارئ فالدماغ يتلقى كمية من الدم أكبر ويجد نفسه في حالة احتقان شديد ولنضف إلى ما تقدم أن حدقة العين تتسع والجلد يفرز العرق واللعاب وإفرازات المعدة والهرمونات تزداد غزارة ويتابع الدكتور (مايلان )حديثة فيقول :(ينبغي للغريزة الجنسية أن تتخذ صفة مثالية كلما تقدم الإنسان بالعمر على المرء أن ينصرف في كبره إلى الأعمال الفكرية التي تصرف الذهن عن كل تفكير جنسي وهذا ما يثبت صحته رجال انصرفوا إلى الفكر فعاشوا فيما يشبه التبتل والقابليات الفكرية هي آخر ما يضعف عند الإنسان، فمقدور المرء حتى سن متقدمة جداً أن يظل مستمتعا بهذه الملذات العقلية المهدئة ).والواقع أن الإسلام نهى عن الإسراف في كل أمر،  وإن كان حلالاً طيباً والإفراط في أي شيء مضر، وخير الأمور أوسطها.

وعلى سبيل العلم والمعرفة نذكر هنا بأن ( زرادشت ) حدد المدة بين الجماع بتسعة أيام  وحددها ( سقراط ) بعشرة أيام ، أما  ( لوثر ) مؤسس المذهب البروتستانتي فقد نصح بمرتين في الأسبوع الواحد..

شخصية الزوج هي الأساس :

وحذر الإسلام الزوج من التمادي في مجاراة المرأة فيما تهوى حفاظاً على شخصية الرجل وقوامته من الانهيار والانحسار، وفي ذلك الخراب كل الخراب لبيت الزوجية ولمن فيه ويتحدث الإمام الغزالى عن هذا المعنى في كتاب الإحياء فيقول: ( ونفس المرأة على مثال نفسك إن أرسلت عنانها قليلاً جمحت بك طويلاً وإن أرخيت عذارها فتراً جذبتك ذراعاً، وإن كبحتها وشددت يدك عليها في محل الشدة ملكتها ) فشخصية الرجل تلعب دوراً كبيراً في الحياة الزوجية، وما لم يكن الرجل في حياة زوجته كل شئ تجد فيه المثل الأعلى والقدوة الحسنة وتحس منه الحزم والحنان فإن عقد الزوجية سيصاب حتماً بالتفكك، وقد يعتمد بعض الأزواج أن لا بأس من التساهل في مطلع الحياة الزوجية فإذا بهم يقعون ضحية جهلهم هذا مدى الحياة، والحق يقال أن الأيام الأولى هي التي ترسم مستقبل البيت الزوجي كله، ومن واجب الأزواج أن يكونوا أكثر تحسباً واحتياطاً في هذه المرحلة من غيرها، على الزوج ألا يتمادى في اتباع هوى زوجته إلى حد يفسد خلقها ويسقط بالكلية هيبته عندها، وإنما عليه أن يكون حكيماً يزن الأمور بميزان الإسلام، ويضعها في مواضعها، ومما يروى عن الحسن بن على أنه قال: ( والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار ) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الزوجة ).

وخلاصة القول أن الزواج من أخطر المنعطفات التي تمر في حياة الدعاة، وخسارة كبرى أن يسقط هؤلاء عند التجربة الأولى، بل إن من واجبهم أن يقدموا بين يدي إسلامهم ودعوتهم وقائع نموذجية للحياة الزوجية الموفقة، وهذا من شأنه أن يكسب الحركة الإسلامية والقضية الإسلامية أبرز خصائصها وهي الواقعية ...

والحقيقة أن مشكلة الفشل في حياة الدعاة الزوجية باتت من المشكلات الرئيسية لكثرة وقوعها وتزايد خطرها لأنها لا تفتأ تفقد الدعوة حيناً بعد حين زهرة شبابها وخبرة رجالها، وإذا كانت الدعوة تستنفد عزيز طاقاتها في تكوين أفرادها فإن من واجبها أن تكون أكثر حرصاً على صيانة إنتاجها من التلف والبوار، وإن كان المهم أن نبنى فمن الأهم أن نحافظ على هذا البناء ونصونه من غوائل الأيام .

منقول بتصرف من كتاب "مشكلات الدعوة والداعية” للأستاذ فتحي يكن - رحمه الله.