المحنة في عصر التابعين:

وينقضي عصر الصحابة ويأتي عصر التابعين، ويطالعنا التاريخ بألوان شتى من محن الإسلام؛ ففي هذه المرحلة تتكاتف لهدم الإسلام معاول الأبناء والأعداء ويتولى السلطة طغاة متجبرون يسومون المؤمنين سوء العذاب .

الحجاج بن يوسف :

ففي عام 75 هجرية يتولى الحجاج بن يوسف الحكم في العراق، ويشهد هذا البلد لإسلامي في عهده أياماً سوداء، شأنه شأن كل طاغية مستبد، همه إخضاع الناس لقوته وجبروته وإقامة سلطانه ولو على الجماجم والأشلاء، كان الحجاج بلاء على الإسلام والمسلمين شوه الإسلام بانتسابه إليه، وأساء إلى الدين بتوليه الحكم باسم الدين فكمم الأفواه وجرد سيفه للبطش بكل من يخرج عن طاعته .

سعيد بن جبير :

ومن سنة الله في خلقه أنه يهيئ للطغاة رجالاً لا يهابون الطغيان، يصنعهم على عينه، ويهبهم الجرأة فيه، وكان سعيد بن جبير أحد هؤلاء الذين خلصوا من حظ أنفسهم وهانت عليهم دنياهم ونذروا أنفسهم لله وعندما صمم الحجاج على قتله والخلاص منه، أرسل جنوداً بطلبه فجاءوا به وأدخلوه عليه ،

 سأله الحجاج عن اسمه

قال: سعيد بن جبير

قال الحجاج: بل أنت شقي بن كسير ( تحقيراً وسخرية )

قال سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك

قال الحجاج : شقيت أنت وشقيت أمك

قال سعيد: الغيب يعلمه غيرك

قال الحجاج : لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى

قال سعيد : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً

قال الحجاج : فما قولك في محمد ؟

قال : نبي الرحمة وإمام الهدى عليه الصلاة والسلام

قال الحجاج : فما بالك لم تضحك ؟

قال سعيد : وكيف يضحك مخلوق من طين والطين تأكله النار

قال الحجاج : فما بالنا نضحك

قال سعيد : لم تستو القلوب

وفكر الحجاج بطريقة أخرى لاستمالته وإذلاله فأمر بالذهب والمال واللؤلؤ والياقوت فجمع بين يديه ولكن أنى لهذه المغريات أن تجد لها طريقاً إلى قلب شغله حب الله وزهد بالدنيا وما فيها .

فقال سعيد : إن كنت جمعت هذا لتفتدى به من فزع يوم القيامة فقد أخطأت، وإن فزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شئ جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا .

 فأمر الحجاج بالموسيقى؛ فصدحت ونفخ في الناي وضرب بالعود؛ فبكى سعيد

فقال له الحجاج : ما يبكيك أهو اللهو ؟

فقال سعيد : بل هو الحزن أما النفخ فذكرني يوماً عظيماً يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق، وأما الأوتار فإنها أمعاء الشياه يبعث بها معك يوم القيامة .

فقال الحجاج : ويلك يا سعيد 

فقال سعيد :الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار

قال الحجاج : اختر يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك 

فقال سعيد : بل اختر لنفسك يا حجاج فوا الله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها يوم القيامة

قال الحجاج : أفتريد أن أعفو عنك ؟

قال سعيد : إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر

قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه؛ فلما خرجوا به من الباب ضحك . فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده وقال له : ما أضحكك ؟

قال سعيد : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عنك .

قال الحجاج : اقتلوه .

 فقال سعيد : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين 

قال الحجاج : شدوا به لغير القبلة

قال سعيد : فأينما تولوا فثم وجه الله

قال الحجاج : كبوه لوجهه .

قال سعيد : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى

قال الحجاج : اذبحوه

قال سعيد : أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله خذها منى حتى تلقاني يوم القيامة ثم دعا سعيد الله قائلاً : ( اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي ) ثم ذبحوه على النطع رحمه الله وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة ثم مات ...

* المحنة بين الأمس واليوم :

هكذا تبدت معالم الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ إنها صورة واحدة ذات أشكال متعددة تتغير فيها الأزمان والأشخاص وتبقى الحقيقة هي  هي ..

إنه استعلاء الإيمان في كل زمان  واعتزاز الحق في كل عصر نماذج من الرجولة صاغتها عقيدة الإسلام إنه الإنتاج الفريد الذي تصدره مدرسة النبوة في كل حين أهيب الحياة إكسير الحياة .

لقد برهن هذا الدين بما تزاحم في تاريخه الطويل من أبطال ورجال عن جدارته الفذة في خلق البطولة والرجولة .

 

منقول بتصرف من كتاب "مشكلات الدعوة والداعية للأستاذ فتحي يكن " رحمه الله.