وائل قنديل

ما الفرق بين تسريبات عبد الفتاح السيسي وتسريبات الباحث المباحثي عبد الرحيم علي في الفترة التي أعقبت انقلاب 30 يونيو (2013) في مصر؟ لا أجد ثمة فرقًا، سوى أن السيسي قرّر في 2022 أن يسرّب بنفسه، بعد أن كان، في سنواته الأولى في الحكم، يزوّد أذرعه المنتشرة في كل مكان بما يُراد تسريبه، بالإضافة إلى اختلافاتٍ تقنيةٍ أخرى، أبرزها الجرأة على القصّ واللصق والتركيب والتقطيع، على النحو الذي يؤدّي الغرض من التسريبات، أن يكون الشاهد الوحيد الذي لا شهود ولا شهادات بعده.
ما يفعله السيسي في تمثيلية "الاختيار" التي تطاردك مقاطع منها في كل مكان، هو بالضبط النسخة المتلفزة من كل ما قدّمه من فقرات ثرثرة واختلاقٍ في مؤتمراته الغزيرة، ولعل جديدها ما جرى في مؤتمر شباب شرم الشيخ في يناير 2022، والذي قرّر فيه البدء في تأليف تاريخه بنفسه، والإيعاز إلى صنّاع الدراما التلفزيونية بالعمل على تحويل كل ما يقول إلى أعمال فنية.
قلت في ذلك الوقت إن السيسي يتحدّث بوصفه الشاهد الوحيد، بعد أن غاب الشهود الأصليون، موتًا وإسكاتًا بالقوة، أو إيثارًا للسلامة، حيث غيّب الموت الرئيس محمد مرسي، مرشّح جماعة الإخوان المسلمين الفائز، وكذا المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري الحاكم للبلاد في ذلك الوقت، وأيضًا الفريق محمد العصّار، أو اللواء في ذلك الوقت، الأكثر قربًا من الدوائر السياسية والدبلوماسية الأميركية، من بين كل أعضاء المجلس العسكري، كما سكت جبرًا وإكراهًا وهو على قيد الحياة، الفريق سامي عنان، حبيس الإقامة الجبرية، فيما تبخّر الفريقان محمود حجازي، ثم صدقي صبحي، وزير الدفاع، وهما اللذان أطيحا فاستقرا على شاطئ الصمت.. وبالطبع، معلوم أن كل الذين عملوا مع الرئيس محمد مرسي مغيّبون في السجون، وكذا قيادات الإخوان المسلمين.
فيما أذاعه السيسي من تسجيلاتٍ للرئيس مرسي، ذلك اللقاء مع المشير طنطاوي في حضوره، وهو لا يدين الشهيد مرسي في شيء، بل هو، وعلى الرغم من القصّ واللصق والمونتاج، شهادة في حقه رجل دولة وسياسيا محترما، يتحدّث لغة مسؤولة وعاقلة، فيما كان الطرف الآخر يتكلم، ويتصرّف، كتشكيل عصابي، أو مافيا اختطفت بلدًا وتساوم عليه.
هناك كثير مما يقال عن كمية التلفيق والتزوير في هذا المقطع المنتشر من المسلسل، وكلام أكثر يمكن قوله عن التلاعب في التواريخ والأحداث، لكن ما يسترعي الانتباه هنا هو أخلاق هذه المنظومة الحاكمة، في ذلك الوقت، التي تسمح لها بالتسجيل والتصوير لكل من يزورها، أو يلتقي معها، ثم تستبيح إذاعة تسجيلاتها فيما بعد. .. هذه لا يمكن أن تكون أخلاقيات نظام سياسي، وإنما هي نموذج لسلوك العصابات السرّية التي تمارس أنشطة إجرامية، وتبتزّ كل من يتعامل معها بما تعتبرها وثائق إدانة.
وزير دفاع، ومدير مخابرات حربية، انطلقا يسجّلان، سرًا، لكل من يلتقيهما، ثم يستخدمان ما سجّلاه في إطار ما تُعرف بعملية حرق الخصوم، واغتيال المنافسين سياسيًا وإعلاميًا، هل هناك مستوى أكثر انحطاطًا من ذلك؟
ليس مهمًا هنا من الذي سجّل لمن؟ هل هو السيسي سجّلها بالاتفاق مع طنطاوي، أم أنه سجلها للاستخدام، وقت اللزوم، ضد مرسي وطنطاوي معًا؟ .. الشاهد، أن ما أذيع، وسوف يذاع، يؤكّد أن كل زائر وكل من ينزل ضيفًا على هذا النظام لن ينجو من أكمنة منصوبةٍ مسبقًا للتسجيل والتصوير، ثم الاستخدام فيما بعد، مع الاستعانة بتقنيات المونتاج والتركيب للحصول على ما يرونها أدلة إدانة، وأسلحة اغتيال معنوي وقت اللزوم.
هذه رسالة غبية من بطل هذه الوقائع المُخجلة إلى كل من ينزل عليه ضيفًا أو زائرًا بأنه سيتم تسجيل كل ما يقول جهرًا أو همسًا، سواء كان رئيس دولة أو أميرًا، أو مسؤولًا من أي دولةٍ صديقة أو جارة، وأنه ليس هناك أي رادع أخلاقي أو قانوني يمنع استثمار هذه التسجيلات، مع أول خلافٍ سياسيٍّ ينشأ بين الطرفين. ومن الآن فصاعدًا، على كل أصدقاء السيسي الجدد، الذين يفكّرون في زيارته أو استضافته أن يدركوا أن هناك كاميرا السيسي الخفيّة، تسجل وتحتفظ بالتسجيلات، فليحرص كل زائرٍ على كثير جدًا من الابتسامات وتعبيرات الوجه، وقليل جدًا من الكلام الصريح.

المصدر: العربي الجديد