د. حلمي القاعود

رحل أبو يمان! رحمه الله، ورضي عنه.

فجر الثلاثاء 19 من شعبان 1443 الموافق 22 مارس 2022م، رحل الدكتور عبد القدوس أبو صالح عن تسعين عامًا.. جاء الخبر كأنه هتاف في حلم، لا علاقة له بالواقع، الرجل يسكن في قلوب محبيه وصدورهم، ويتوقعون منه اتصالاً أو يترقبون معه لقاء في أية لحظة، في هذه العاصمة أو تلك، فهو حركة دائبة وهمّة متوثبة لا تتوقف ولا تتأخر، نشاط ابن العشرين وهو في السبعين أو الثمانين، ذاكرته حافظة لاقطة، يحفظ الأسماء وما أكثرها، ويعلم ما يريده أو ما يتعلق بكل اسم في مجالات الحركة الأدبية والفكرية، ويعمل على الاستجابة والمشاركة والتنفيذ، وينهض بالمجاملات والمشاطرات، ويرتب وقته وينظم حياته على الحضور في المناسبات العلمية والثقافية، ويتنقل بين آسيا وإفريقية وأوروبا وأمريكا من أجل الأدب الإسلامي أو أمور خاصة.. كان ملكاً لقضية، وكانت القضية من أجل الدين والأمة.

 سؤال بلا إجابة

في أواسط السبعينيات كتبت في الأهرام مقالة بعنوان: سؤال بلا إجابة! كنت أتساءل فيه عن الأدب الإسلامي، الذي هو أدب الأمة منذ البعثة الشريفة، وهل مازال له وجود في أدبنا الراهن بعد أن سيطرت النزعات الاشتراكية والوجودية والعبثية والسيريالية وغيرها عليه؟ أثار المقال في حينه بعض الإجابات، وردّ الأستاذ عباس خضر- رحمه الله- بمقال في الأهرام، عنوانه: نعم.. سؤال له إجابة، وراح يضرب أمثلة ببعض الكتابات التاريخية التي تسرد السيرة النبوية أو تتحدث عن وقائع التاريخ الإسلامي، ولكنني كنت أقصد شيئاً آخر، أقصد التصور الذي يحكم الأدب بصفة عامة، فالتصور الإسلامي يختلف بالضرورة عن التصور المادي الذي يتبناه غير المسلمين في الغرب أو الشرق.

وكنت في أوائل الستينيات وأنا طالب بمعهد المعلمين قد ألقيت محاضرة بمناسبة معرض فني أقامه المعهد، واعتمدت فيها على كتاب الأستاذ محمد قطب يرحمه الله "منهج الفن الإسلامي"، الذي تناول بشكل موسع مفاهيم الأدب الإسلامي، وهو ما جعلني بعدئذ أتتبع التصور الذي يصدر عنه الأدباء فيما يكتبون، أو ما بات يعرف اليوم بصورة ما، بوجهة النظر!

 فكرة ممتدة

في أوائل الثمانينيات فوجئت ببرقية تصلني في قريتي موقعة من الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي والدكتور عبد القدوس أبو صالح للقاء في رابطة الأدب الحديث بوسط القاهرة في وقت حددته البرقية، وهناك تعرفت على الدكتور عبد القدوس شخصياً لأول مرة، ومعه الأستاذ محمد حسن بريغش والدكتور عبد الباسط بدر يرحمهما الله، ومن ثم انطلقت فكرة رابطة الأدب الإسلامي، وتبلورت فكرة الأدب الإسلامي التي بدت غريبة في أذهان بعضهم، ومشوشة في أذهان بعضهم الآخر، وحملت حمولات شتى أوّلها مفسرون تأويلات متباينة، بيد أن الفكرة لم تتوقف عند حدود لكنهؤ في الهند أو الرياض في أرض الحرمين أو القاهرة في مصر.. لقد امتدت الفكرة لتشمل مساحة ممتدة من أرض المسلمين، يرافقها نقاش، وجدل، وحوارات، لعلها لم تنقطع حتى اليوم، ولكن الفكرة وما رافقها كان مرتبطاً بصورة وأخرى بأبي يمان، الذي كان يبذل جهده ووقته ليدافع عنها، ويصوغ ذلك في أبحاث وكتب، ترد وتكشف وتوضح، وهو ما جعله ينتج مجموعة من الكتب والبحوث، منها:

 ـ دور الأدب الإسلامي في الوحدة الإسلامية.

 ـ قضية الأدب الإسلامي.

 ـ شبهات حول الأدب الإسلامي.

 ـ نحو منهج إسلامي في أدب الطفل.

 ـ موقف الأدب الإسلامي من العلاقة بين الجنسين – نشر في مجلة المنتدى في دبي.

 الإسلام الحيّ

جاء الحديث عن الأدب الإسلامي عقب مرحلة تم فيها شطب الإسلام الحي الفعال من أجندة المجتمعات العربية، حيث حلت مكانه أيولوجيات القومية العربية، والإشتراكية، والشيوعية، والوجودية، و...وازدهرت في المجال الأدبي نظريات الغرب بدءا من الواقعية الاشتراكية، والسيريالية، والدادائية والعبثية، ولوحظ أن النظريات النقدية الغربية التي راجت في بلادنا العربية وخاصة القادمة من أقصى الشمال الإفريقي، كانت لنقاد ذوي جذور يهودية، تحدثوا عن البنيوية والتفكيكية وموت المؤلف، وموت الإله، وهلامية المعنى، وغير ذلك من أفكار عدمية تفصل المؤلف والقارئ عن النص، وتلغي جماليات الفن، أو تجعلها مرهونة بواقع المتلقي الذي قد تكون إمكاناته الثقافية محدودة، أو غارقة في ضبابية فكر مجهول.. وما أكثر ما فاخر المتصدرون للمشهد الثقافي في بلادنا العربية بالسادة الغربيين من دعاة التفكيك وغيره، أمثال: جاك دريدا ورولان بارت وخوسية ماريا بوثويلوا إيفانكو وميشال فوكو وليتش وهوارد فليرن وجون إيليس وليونارد جاكسون وبول ديمان وج. لوبران وفدينيس دونويه وموري كريجر وتزفيتان تودوروف جوليا كريستيفا وتشارلز دو بوس وجاك لاكان.. وجان بيار ريتشارد وغيرهم.

وللإنصاف فهناك من رفض هذه الفلسفات والتفكيك خاصة من أمثال: إدوارد سعيد وشجاع مسلم وبسام قطوس وعبد العزيز بن عرفة وعبد العزيز حمودة وعبد الحميد إبراهيم..

 استعادة الهوية

لقد عاش العرب على مدى قرن من الزمان تقريبا يناقشون القضايا التي طرحها نقاد فرنسيون وألمان وإنجليز من أمثال صموئيل جونسون وويليام هازليت وسانت بوف وماثيو آرنولد وت. س. إليوت، وليزنيل تريلينج، وكانت في معظمها تحمل عناصر مفيدة لأدبنا العربي، وقد أفاد منها العقاد ومدرسة الديوان، وطه حسين ومحمد غنيمي هلال ومحمد مندور وغيرهم، ولكن فصل العمل الأدبي عن صاحبه، كان ذروة الرؤية المدمرة للمعنى، في الغرب والبلاد العربية التي صار كثير من نقادها ينقلون نقلا حرفيا ما يجري في المركزية الأوروبية.

في هذا المناخ الذي تخلى فيه الأدب العربي عن هويته الإسلامية، جاءت دعوة الأدب الإسلامي، لتستعيد الهوية الإسلامية، وتشعل حولها كثيرا من المعارك والمناقشات عبر الكتب والدوريات والندوات والمؤتمرات، فقد كات كلمة (إسلام) على أقلام النخب الثقافية مرادفة للتطرف والعنف والإرهاب والتخلف والرجعية والأصولية والعداء للحياة بصفة عامة! وما أكثر ما عرضت الصحف والإذاعات والشاشات صوراً مشوهة للإسلام وقيمه وأفكاره وتشريعاته، مع استغلال حادثة عنف هنا أو أخرى هناك لتعميم الحكم على المسلمين جميعاً ووصمهم بالدموية والوحشية، في الوقت الذي تقع فيه حوادث أشد وطأة أخرى في أماكن غير إسلامية فلا يلتفت إليها أحد، ولا يعبأ بها أحد، وكأن النخب العربية التي يفترض أنها تنتسب إلى الإسلام معنية بأن تضع الإسلام في صورة مقززة لترضي المركزية الأوروبية، وثقافتها الوحشية..

 خرافات وأساطير

يجري ذلك بين المثقفين العرب، بينما يسعى اليهود الغزاة في فلسطين المحتلة، إلى بعث الخرافات والأساطير التي يرون أنها تتعلق بديانتهم وتراثهم ولغتهم ويصدرون عنها في أدبياتهم وكتاباتهم، ويفاخرون بذلك أمام المجتمعات الدولية دون أن يشعروا ولو بقليل من الخجل في ادعاءاتهم، ومزاعمهم.. وترى المتدين اليهودي يجلس مع العلماني اليهودي، وهما يتشاركان التعبير عن خرافاتهم وأساطيرهم وأزيائهم وتقاليدهم دون تقليل من صدقيتها أو فرضيتها.

كلمة إسلام أو مسلم وصلت بعد هوان الهزائم والإخفاقات التي عاشها العرب في القرن العشرين إلى حضيض الإنسانية، أضحت مثيرة، وخطيرة، وتعرض صاحبها، أعني الذي يؤمن بالإسلام منهج حياة، ورؤية مستقبل، وحلا للقضايا والمشكلات، لكثير من المتاعب والآلام، وما أقسى أن يحاربَ الإسلامَ أهلُه وذووه، وخاصة ممن يملكون صدارة المشهد التعبيري.

لقد سيطر الرافضون للإسلام وثقافته من شيوعيين وماديين وليبراليين وأرزقية على صدارة المشهد التعبيري الرسمي، فحرموا كل صوت إسلامي من الانطلاق، وحاصروه بالصمت، أو التجريح، أو المنع من المشاركة في الحياة الثقافية، وفتحوا المجال واسعاً أمام التشويه والتشهير بالدين الحنيف، وجعلوا ذلك ديدنا أورثوه لخلفائهم في الأجهزة الثقافية التي صارت ملكا مباحا لهم، مع أن الأمة المسلمة هي التي تنفق على هذه الأجهزة، وتقدم لها ميزانيتها، ونفقاتها، وجوائزها، وغير ذلك..

 فرس رهان

لقد كانت فكرة الأدب الإسلامي صدمة مزلزلة لخصوم الإسلام في الثقافة العربية المعاصرة، فقد ظنوا أن الإسلام قد تم شطبه للأبد بعد سيطرتهم الكاملة على جذور العمل الثقافي، وتوجيهه كما يريدون...

وكانت رابطة الأدب الإسلامي التي أنشئت رسميا في لكنهؤ بالهند ويرأسها العلامة أبو الحسن الندوي، فرس رهان في الدفاع عن الفكرة الإسلامية في الأدب. صدرت كتب كثيرة عن الرابطة ومن خارجها، تدافع عن إسلامية الأدب، وكنت واحدا ممن أتيح لهم إصدار كتاب فوق المتوسط (الأدب الإسلامي: الفكرة والتطبيق، دار النشر الدولي، الرياض، 1428ه= 2007م، 315 صفحة – قطع كبير).

لا ريب أن الرابطة كسرت الهيمنة المادية على ثقافتنا، وأتاحت لكثير من أعضائها التأليف والنشر من خلال تعاون بعض الناشرين الموالين للفكرة الإسلامية، فنشرت نصوصا إبداعية ونقدية كثيرة، وبعضها مما كتبه المتسابقون الفائزون في مجالات الرواية والمسرحية وأدب الطفل، وكانت هذه إضافة مهمة في الأدب العربي المعاصر.

وفي كل الأحوال فقد كان من وراء ذلك الدكتور عبد القدوس الذي كان يعمل ليل نهار، ويتابع ما يقال حول الأدب الإسلامي هنا وهناك، ويرد ويناقش، ويعاونه رجال مخلصون في البلاد العربية وآسيا وإفريقيا، ولم يكن يمل من المشاركات المباشرة سواء من خلال حضور الندوات أو المؤتمرات أو السفر إلى العواصم البعيدة ليفتتح فروعا للرابطة في بلاد عربية أو أخرى إسلامية. وقد أسعدني الحظ أن أشارك معه أو أمثّله في بعض الأنشطة داخل الرياض أو القاهرة، أو اسطنبول أو الأردن أو المغرب العربي، أو بنجلاديش..

 قيم الإسلام العليا

لقد استطاع أن ينشئ فروعا للرابطة في باكستان واسطنبول والمغرب والسودان واليمن والأردن وتشاد وبنجلاديش وماليزيا.. وتمكن من عقد عشرات اللقاءات الثقافية في الجامعات العربية والإسلامية داخل العالم العربي وخارجه، وكانت لقاءات مفيدة أسهمت في استرداد الهوية الإسلامية، وأثرت حركة الأدب الإسلامي في اللغات التي يتكلم بها المسلمون وفي مقدمتها الأدب العربي.

لقد نشأ عبد القدوس أبوصالح نشأة إسلامية، وأسرة متدينة، فقد ولد في مدينة حلب السورية في 28يولية 1932م، لرجل من علماء الدين والفقه هو محمد ناجي أبو صالح رحمه الله، فتربى مع إخوته على قيم الإسلام العليا، وتلقى تعليمه في مسقط رأسه، وحصل على الشهادة الثانوية عام 1949م. ونال إجازة الآداب (قسم اللغة العربية) من كلية الآداب في جامعة دمشق عام 1954م. وبعدها دبلوم التربية من الجامعة نفسها عام 1955م.

ولم يتوقف عند دراسة اللغة العربية والتربية، بل واصل ليحصل على ليسانس في الحقوق من جامعة دمشق عام 1959م. ثم سافر إلى مصر ليتابع دراساته العليا، فأحرز الماجستير في آداب اللغة العربية من كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1964م. وبعدهاالدكتوراه في الآداب في اللغة العربية من الكلية ذاتها، بتقدير مرتبة الشرف الأولى سنة 1971م.

قضى الدكتور عبد القدوس معظم حياته في مجال التعليم، فعمل مدرِّسًا في وزارة التربية والتعليم في مدارس مدينة (حلب) من عام 1955م حتى عام 1962م. ثم انتقل عام 1962م للعمل أستاذاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلية اللغة العربية لمدة تقارب الأربعين عاماً. وانتقل إلى كلية المعلمين بالرياض بناء على رغبة وزير التربية والتعليم آنئذ للنظر في مناهج الكلية، وقد درس فيها مدة خمس سنوات. ويعزى إليه الفضل في جعل الأدب الإسلامي مقرراً دراسياً في كليات المعلمين، وكليات اللغة العربية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود، كما اعتمدت المقرر بعض الكليات خارج المملكة العربية السعودية.

 وقد تعاقدت معه جامعة الأمير سلطان الأهلية بعد تقاعده ليكون مستشاراً غير متفرغ لسنة كاملة.

وقد أشرف في أثناء عمله بالتدريس على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه، وأسهم في كثير من لجان التحكيم.

وأنتج عبر عمره البحثي عددا غير قليل من الكتب والبحوث، معظمها يهتم بالتراث وتاريخه، منها:

يزيد بن مفرغ الحميري وشعره-  

 تحقيق وشرح ديوان ذي الرمة ـ لأبي نصر الباهلي (صاحب الأصمعي).

تحقيق كتاب العفو والاعتذار للرقام البصري (صاحب ابن دريد).  

من شعر الجهاد في العصر الحديث بالاشتراك مع د. محمد رجب البيومي

شعر الدعاء والمناجاة في الأدب العربي.

شعر الحماسة في الأدب العربي القديم – نشر في مجلة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

شعر الحنين في الأدب العربي القديم.

ابن شرف القيرواني ورسائل الانتقاد – نشر في مجلة المعلم العربي بدمشق.

ازدواج اللغة في المدارس والجامعات – نشر في مجلة كلية المعلمين بالرياض.

مذكرات الدكتور معروف الدواليبي.

أحاديث وأسمار، ويضم بين دفتيه 221 مقالة، في 550ص،  

الثلج الأحمر، قصة للأطفال...

 الرابطة والإنسان

اختير نائباً لرئيس رابطة الأدب الإسلامي منذ إنشائها، ورئيساً لمكتب البلاد العربية حتى عام 1421هـ- 2000م، حيث انتخبه مجلس أمناء الرابطة بالإجماع رئيساً للرابطة خلفاً لسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي -رحمه الله- بعد رحيله، وقد تولى بالإضافة إلى ذلك رئاسة تحرير مجلة الأدب الإسلامي الفصلية الورقية منذ صدور عددها الأول في رجب عام 1414هـ/ الموافق كانون الأول عام 1993م، حتى رحيله حيث تحولت إلى نسخة إلكترونية، ومعها مجلة إلكترونية شهرية.  

على المستوى الإنساني، كان أبو يمان عطوفاً، تحركه المروءة والنخوة، وكم وقف إلى جانب كثير من الأعضاء في ظروف صعبة مرت بهم، فشارك بقدر ما يستطيع لحل مشكلاتهم، ولا أنسى موقفه مع الدكتور نجيب الكيلاني في مرضه الأخير، فقد بذل مع آخرين جهداً كبيراً، حتى أمكن نقله إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وأجريت له عملية جراحية استمرت لساعات طويلة، وإن كانت للأسف لم تكلل بالنجاح بسبب انتشار المرض في أرجاء الجسم، وقد ظل أبو يمان يتابع محنة الدكتور نجيب حتى لقي ربه!