محمد خير موسى

 في النّصف من شعبان كان تحويل القِبلة من بيت المقدس والمسجد الأقصى إلى الكعبة المشرّفة في مكّة المكرمة، وعلى هذا التّاريخ عامّة المؤرّخين وكُتّاب السّير، كما يقول ابن كثير في البداية والنّهاية تحت عنوان "فصل في تحويل القبلة في سنة ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر": "قال الجمهور الأعظم: إنَّما صُرفت في النّصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة".

واجباتٌ منتَظَرَة

إنّ ذكرى تحويل القِبلَة ينبغي أن تكون مناسبةً يعيدُ فيها المسلمون جميعاً -بوصفها قضيّة كلّ واحدٍ فيهم- وفي مقدّمتهم الفلسطينيّون -بوصفهم أهل الثّغر الأقرب ورأس الحربة في المواجهة- قادةً سياسيّين وعلماء ودعاة وشباباً وناشطين؛ شدّ الرّحال المعنويّ إلى المسجد الأقصى المبارك. فلئن غاب عنهم شد الرّحال الجسدي، فالواجب عليهم إعادة إنتاج مفهوم وصور شدّ الرّحال المعنويّ إليه؛ فيعيدونه إلى واجهة الحديث والحضور، ورسم الخطط لمواجهة تطورات العدوان المستمرّ على مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستشراف المستقبل ووضع آليّات قائمةٍ على المبادرة بالفعل لحماية المسجد الأقصى أو ما تبقّى منه، وعدم انتظار الإجراءات الصّهيونيّة أو الانحسار إلى زاوية ردّ الفعل التي لم تؤت ثماراً حقيقيّة على مدى السّنوات الطّوال الماضية.

المطلوب اليوم من القادة السياسيّين الفلسطينيين على وجه الخصوص والسياسيين في عموم البلاد الإسلاميّة، وقادة العمل الإسلاميّ والرّموز الإعلاميّة والرّموز الدّعويّة والمؤثّرين في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، تخصيص كلماتٍ مرئيّة دوريّة وبيانات خاصّة باللّغات الحيّة كلّها للحديث عن المسجد الأقصى المبارك، وما يتعرّض له من مخاطر ومكر الكيان الصّهيوني، واستغلاله الانشغال الإسلاميّ بقضاياه الدّاخليّة المتدحرجة وبتداعيات الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة لتحقيق مكائده. ولتكن ذكرى تحويل القبلة مناسبةً لإطلاق حملةٍ للحديث في ذلك، وإعادة القِبلةِ الأولى إلى الواجهة في ظلّ تزاحم الوجهات والتوجّهات.

وكذلك على العلماء والدّعاة من الفلسطينيين وغيرهم، على مستوى الأفراد والمؤسّسات، تقدُّم الصّفوف وجعل المسجد الأقصى جزءاً من مكوّنات خطابهم الدّعوي المستمرّ، بحيث يكون المسجد الأقصى المبارك مفردةً من مفردات الخطاب الحاضرة دوماً، وليست متعلّقة بالمناسبات الدّوريّة والحوادث المستجدّة فيه؛ فالأقصى قضيّة مستمرّة، وأسيرٌ ما يزال يئنّ، وحبيبٌ يعاني من وباء الاحتلال الصّهيونيّ ووباء المستوطنين الذين لا يكفّون عن اقتحامه تحت حراب الاحتلال، ووباء صفقة القرن، ووباء تآمر بعض أبناء جلدتنا ووباء الخذلان الإسلاميّ؛ فلا ينبغي أن يكون الحدب عليه والإقبال على التّفاعل معه موسميّاً ما دام أنينه مستمرّاً.

أمّا الشّباب النّاشطون على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، والكُتّاب والمفكّرون المنافحون عن قضايا أمّتهم، فإنَّ أقلّ ما يمكنهم فعلُه هو إبرازُ قضيّة المسجد الأقصى جنباً إلى جنب مع المسجد الحرام والمسجد النبويّ، وإلى جانب قضايا الشّباب التي تشغلهم ويتفاعلون معها باستمرار، فإنّ أقلّ ما يرتجى منهم أن يكون المسجدُ الأقصى المبارك قضيّةً شبابيّة لا يخبو ذكرُها ولا يتراجع وهجها، ولا تكون قضيّة مناسباتيّة.

إنّ إغراق صفحات وسائل التّواصل الاجتماعيّ بصور المسجد الأقصى المبارك بحالاته كلّها له دور كبيرٌ وأثرٌ مهمّ في تجديد استشعار المسلم بمكانة المسجد الأقصى المبارك، وربطه بصور المسجدين الحرام والنّبويّ، فهو شقيقهما وصنوهما في شدّ الرّحال، كما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: "لا تُشَدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى".

واجبٌ شرعيّ وسنّةٌ نبويّة

إنَّ استحضار المسجد الأقصى مع المسجد الحرام والمسجد النبويّ عند الحديث عن المساجد، في ظلّ هذا الغياب الموجع، واجبٌ شرعيّ يقتضيه الرّبط النبويّ بين المساجد الثّلاثة من جهة، وكونه يعاني من مخاطر التّهويد ومخطّطات الاحتلال الصّهيوني من جهة أخرى.

وإنّ الاهتمام بالمسجد الأقصى المبارك هو سنّة نبويّة، حيث كانت تُعقَدُ المجالسُ في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للتباحث في شأن المسجد الأقصى المبارك؛ فقد أخرج الطّبرانيّ بسند صحيحٍ عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: تذاكَرنا ونحنُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّها أفضل، أمسجدُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه -أي المسجد الأقصى- ولنعمَ المُصلّى هو، وليوشكنّ أن يكون للرجل مثل شَطَنِ (الحبل) فرسه من الأرض، حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدّنيا جميعاً، أو قال: خيرٌ له من الدّنيا وما فيها".

إنَّ ذكرى تحويل القبلة مناسبةٌ لتحويل قبلة الحديث إلى المسجد الأقصى المبارك وشدّ رحال القلوب والعقول والأفكار إليه مجدّداً، وجعلِه القِبلة الأولى في الاهتمام ببيان الواجبات الشرعيّة تجاهه على مختلف شرائح الأمّة وحشد طاقاتها؛ ليكون الأقصى حاضراً رغم طوفان الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة في وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، ورغم إرادة الاحتلال الصّهيوني تغييبه عن اهتمام الأمّة وأولويّاتِها.