الحوار الثالث والرابع: بين الزوج وزوجته، وبين الأب وابنته:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:  قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار، إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذون من أدب نساء الأنصار، فصخبت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني... قالت : ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني ذلك فقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن. ثم جمعت علي ثيابي، فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة، أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟

قالت: نعم، فقلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلكي؟ لا تستكثري النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شئ ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم – يريد عائشة".

وهذا الحوار فيه فوائد ودروس عدة ومنها:

أولاً: قوله: "كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم" . فبيّن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن معشر قريش أشد وطأة على النساء من معشر الأنصار، حيث الحكم الأول والأخير في معشر قريش للرجال، فلا مجال فيه للمرأة أن تدلي بدلوها، أما الأنصار فللنساء عندهم مجال كبير في إبداء الرأي بل ربما تأثر الرجال برأي زوجاتهم، قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: "أي نحكم عليهن ولا يحكمن علينا، بخلاف الأنصار فكانوا بالعكس من ذلك".

ثانياً: قوله رضي الله عنه: فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار".

وهذا فيه فائدة.. إن المرأة شديدة التأثر بمن حولها؛ ولذلك فالصحبة لها أثرها الكبير، فهي تترك بصماتها على الإنسان بوضوح؛ حتى قال عليه أفضل الصلاة والسلام : "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم ممن يخالل".

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

فعلى المؤمن أن يحذر صحبة السوء، ويحذر أهله؛ بل ويمنعهم من صحبة من لا أخلاق له.

ثالثاً: قوله: "فصخبت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني قالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه".

وجود المشكلات الأسرية أمر طبيعي لم يسلم منه أحد حتى أفضل القرون مع تفاوت هذه المشكلات في الحجم والتأثير والنوع.

رابعاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ بسيرة قومه في شدة الوطأة على النساء وعدم فتح الباب لهن بالمراجعة؛ بل إنه عليه الصلاة والسلام فتح لهن الباب ليدلين بآرائهن ويدافعن عن أنفسهن ويفصحن عما في صدورهن، وهذا من رحمته عليه أفضل الصلاة والسلام.. كيف لا وقد قال: "استوصوا بالنساء خيراً" , وقال: "خيركم خيركم لأهله".

خامساً: الهجر  بين الزوجين "إن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل".

(أ )ينبغي أن لا يكون الهجر مجحفاً؛ بل بالقدر المشروع، ويكون لسان حال الزوج حين هجره زوجته، قول القائل:

إني لأمنحك الصدود وإنني

قسماً إليك مع الصدود لأميل

( ب ) قال عليه أفضل الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى، قالت : فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت عليّ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، فقالت عائشة: أجل، والله يارسول الله ما أهجر إلا اسمك". وهكذا ينبغي أن يكون الهجر بين الزوجين رفيقاً رقيقاً، القصد منه التأديب لا العقوبة.

(ج ) وإذا حصل الهجر بين الزوجين في الكلام فينبغي أن لا يكون أكثر من ثلاثة أيام لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال".

  1. (واهجروهن في المضاجع. النساء )، الآية :34 فالهجر في المضاجع بمعنى أن الزوج ينام مع زوجته في الفراش ولكنه يدير ظهره عنها ويمتنع عن جماعها.. وهذا يعني أن الأولاد وبقية الأسرة لا يشعرون به؛ لأن الغرض هو المعالجة لا التشهير وكشف الأسرار.

سادساً: قول عمر: "فأفزعني ذلك فقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن .. ثم جمعت علي ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة".

وهنا يبدأ الحوار الثاني بين الأب وابنته...

قلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟

وهذا فيه فائدة للرجال ؛ بل للناس جميعاً ، التثبت من الأخبار، وعدم الحكم في قضية حتى نتثبت من أخبار رواتها ؛ ولذلك لم يأخذ عمر رضي الله عنه قول امرأته مسلماً حتى تأكد منه؛ ولذا ينبغي للزوج أن يتأكد من ادعاء زوجته على أمه، وكذا أن يتأكد من ادعاء أمه على زوجته، فكم من البيوت قد تفرقت وتشتت شملها بسبب كذب أم الزوج على زوجة ابنها، أو كذب الزوجة على أم زوجها؛ ولذا ينبغي للرجل التثبت من الأخبار قبل الحكم في القضية.

سابعاً: قالت : نعم، فقلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله فتهلكي؟

لا تستكثري منه: أي لا تطلبي منه الكثير.

ولا تراجعيه في شئ: أي لا تراوديه في الكلام ولا تردي عليه القول.

ولا تهجريه: أي ولو هجرك فلا تهجريه.

هكذا وعظ الأب ابنته من أجل إصلاحها لزوجها .. لم يحرضها على زوجها كما تفعل بعض الأمهات مع بناتهن، تأتي الزوجة بعد خلاف بسيط بينها وبين زوجها، فتنفخ الأم فيه حتى تضرم في صدر ابنتها ناراً تأكل الأخضر واليابس.

قال ابن حجر رحمه الله في التعليق على الحديث: "وفيه (أي من فوائد الحديث) تأديب الرجل لابنته وقرابته بالتقوى لأجل إصلاحها لزوجها".

ثامناً: الحذر من الغرور ببعض أمور الدنيا من مال أو جمال.. والحذر مما يجره ذلك من استعلاء على الزوج وترفع عليه.

"ولا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم – يريد عائشة- "

فحذرها رضي الله عنهما وأرضاهما من الغرور بمن حولها حتى لا تقع في المحذور.

منقول بتصرف من كتاب -حوارات أسرية – للأستاذ مازن عبدالكريم الفريج