ويواصل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  في خصائص فكر الحركة فيقول:

فكر تجديدي

ومن خصائص الفكر الذي ننشده، أنه فكر مجدد، لا يرضى أن يحبس في قفص القديم، ولا يتعبد بالأشكال الموروثة، ولا يحمد عند الوسائل المعهودة، بل هو فكر يؤمن بالاجتهاد ويتبنى التجديد، ويرفض التقليد والتبعية، ويرى أن الجمود هو الموت، فهو يجدد في الفقه، وفي التربية، وفي السياسة، وفي شتى المجالات.

لا تنافي بين السلفية والتجديد
ولا تنافي بين السلفية والتجديد، كما بينت ذلك، في كتابي "الصحوة وهموم الوطن العربي الإسلامي" بل هناك تلازم بينهما؛ فالسلفية الحقة لا تكون إلا مجددة، والتجديد الحق لا يكون إلا سلفيا.

الإسلام أقر شريعة التجديد
لا يقال هنا: إن الحركة إسلامية المصدر والوجهة والأهداف والمبادىء، والإسلام واحد لا يتعدد، ثابت لا يتجدد.

لأننا نقول أولا: إن الإسلام نفسه قد أقر شرعية التجديد بما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم وغيره وصححه الأئمة الثقات "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها".

فالتجديد مشروع وثابت وواقع بالنص، وليس بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان.

فلا ينبغي أن نخاف من كلمة التجديد في الدين، بعد أن صح بها الحديث، إنما الذي ينبغي هنا أن نحدد معنى (التجديد) حتى لا يتلاعب المتلاعبون بالدين وحقائقه باسم تجديدهم المزعوم، وما هم من التجديد في كثير ولا قليل.

وقد بينت في دراسة لي حول هذا الحديث الشريف: المراد بـ (التجديد) وجوانبه ومن يقوم به.

وخلاصة القول فيه: إن تجديد شيء ما لا يعني إزالته، واستحداث شيء آخر مكانه، بل تجديده يعني إعادته أقرب ما يكون إلى صورته الأولى يوم ظهر لأول مرة والمحافظة كل المحافظة على جوهره وخصائصه ومعالمه، وعدم المساس بها.

وهذا ينطبق على الماديات والمعنويات. فتجديد بناء أثري، قصر أو معبد أومسجد، لا يعني هدمه وبناء آخر مكانه على أحدث طراز، بل إبقاءه والحرص على إرجاعه إلى صورته الأولى ما أمكن ذلك. فهذا هو التجديد الحقيقي.

وتجديد الدين يشمل تجديد الفهم والفقه فيه، وهذا تجديد فكري، كما يشمل تجديد الإيمان به، وهذا تجديد روحي، وتجديد العمل له والدعوة إليه، وهذا تجديد عملي.

وكل عصر يحتاج إلى تجديد يناسبه؛ ليجبر القصور والنواقص، ويعالج الأدواء.

على أن هناك منطقة لا يدخلها التجديد بحال، وهي منطقة (القطعيات) التي قال فيها الإسلام كلمته البينة الحاسمة، سواء في مجال العقائد أوالعبادات، أم الأخلاق، أم التشريع، وهي التي تجسد الوحدة العقدية والفكرية والشعورية والسلوكية للأمة المسلمة.

وقد شرحت ذلك في كتب أخرى فليرجع إليها.

ضرورة تجديد الوسائل
ونقول ثانيا: إن الحركة ـ وإن كانت إسلامية المصدر والوجهة والأهداف والمبادىء ـ تتخذ من المناهج والوسائل والأنظمة الاجتهادية ما تراه أصلح لخدمة دينها والتمكين له في الأرض، حسبما يقتضيه الزمان والمكان والحال.

فهذه المناهج والوسائل والأنظمة ليست خالدة خلود الإسلام نفسه، وليس لها ثبات المبادىء والأصول الإسلامية، بل هي أدوات أثمرها الاجتهاد البشري لإحياء الإسلام وتجديده في الأنفس والحياة.

والإمام حسن البنا الذي وضع القواعد الأولى للعمل الحركي المنظم لتجديد الإسلام، لم يدع العصمة لنفسه ولا لوسائله التي ألهمه الله الاهتداء إليها، وهي وسائل بالغة الروعة والقوة، وحق للشهيد سيد قطب أن يسميها (عبقرية البناء). وحق للمرشد الموفق الأستاذ عمر التلمساني أن يسميه (القائد الملهم الموهوب) وحق لشيخنا الغزالي أن يصفه بأنه (مجدد القرن الرابع عشر الهجري). ومع هذا يجب أن تخضع هذه الوسائل والأنظمة للتقويم ما بين الحين والحين، كما يفعل رجال التربية في مناهجهم التي يقررونها، ويؤلفون الكتب في ضوئها، ثم لا تمر سنوات حتى يعيدوا النظر فيها، بالإضافة أو الحذف أو التحوير والتعديل. وهذا أمر لازم لكل عمل بشري مها بلغ من الدقة والإتقان.

حسن البنا لم يكن جامدا

وحسن البنا نفسه لم يكن جامدا، بل كان دائم التجديد والتطوير للوسائل والأساليب في أبنية الحركة ومؤسساتها وأنظمتها.

ولن يضيق الشهيد حسن البنا في قبره إذا خالفه بعض أبنائه وأتباعه في قضية من القضايا التي كان له فيها رأي من قبل، مثل قضية تعدد الأحزاب داخل الدولة الإسلامية، وهو ما ذهبت إليه في دراسة لي.

وكذلك إذا أضاف إلى أصوله ما يرى أنه مكمل لها. كما فعل الشيخ الغزالي في شرحه للأصول العشرين في كتابه الذي سماه (دستور الوحدة الثقافية للمسلمين).

ولا يوجد مانع شرعي ولا عرفي ولا عقلي من إعادة البحث في الوسائل والأنظمة التربوية داخل الجماعة، مثل نظام الأسرة والكتبية، وما يمكن أن يطعم به.

وكذلك البحث في الوسائل السياسية في ضوء المستجدات والمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية، وما تقضي به من دخول في جبهات أو محالفات، أو مهادنات أو مشاركات، حسبما توجه الممصلحة العليا للإسلام، وللأمة وللحركة، وفي ظل الظروف الآنية والموضعية الحاكمة، فلكل قطر ظروفه، ولكل مرحلة حكمها، ولكل مجموعة قدراتها وضروراتها وملابساتها، التي هي أدرى بها من غيرها.

والحركة هنا ـ مثلها كمثل الفقه وغيره من علوم الشريعة ـ لا تحيا وتنمو وتزدهر إلا بفكر المجددين المجتهدين، ولا تذوى وتنكمش وتعقم إلا بفكر المقلدين الجامدين، إن صح أن ما عندهم يسمى (فكرا).

الجمود آفة خطرة
إن الجمود آفة من آفات الفكر الحركي (المؤطر) وهوعائق من العوائق الداخلية في الحركة الإسلامية، كما بينت ذلك في كتابي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة).

الجمود على شكل معين في التنظيم، وعلى وسائل معينة في التربية، وعلى صور معينة في الدعوة، وعلى مراحل معينة في الوصول إلى الهدف، وعلى أفكار معينة في السياسة . . . ومن حاول أن يغير من هذا الشكل أو تلك الوسيلة، أوهذه الصورة أو تلك المراحل، أو تلك الأفكار، أو يعدل فيها بالزيادة والنقص، قوبل بالرفض الشديد، أو الاتهام والتنديد.

ولا زلت أؤكد أن التجديد الذي نريده لا يعني إلغاء القديم، بل تطويره وتحسينه وتحديثه والإضافة إليه، وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والأدوات والكيفيات. فهي أمور مرنة قابلة للتطوير والتحول، والاستفادة من إمكانات العصر، ومما عند الآخرين، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

ما أخشاه على الحركة الإسلامية
إن أخشى ما أخشاه على الحركة الإسلامية أن تضيق بالمفكرين الأحرار من أبنائها وأن تغلق النوافذ في وجه التجديد والاجتهاد، وتقف عند لون واحد من التفكير لا يقبل وجهة نظر أخرى، تحمل رأيا مخالفا في ترتيب الأهداف، أو في تجديد الوسائل، أو في تعيين المراحل، أو في تقويم الأحداث والمواقف، أو في تقدير الرجال، وفي غير ذلك، مما يدخل في دائرة الاجتهاد البشري، الذي من شأنه أن يتطور ويتغير بتغير العوامل والمؤثرات. وقديما قال فقهاؤنا: يجب أن تتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد.

وعندئذ تتسرب الكفايات العقلية القادرة على التجديد والابتكار. من بين صفوف الحركة، كما يتسرب الماء من بين الأصابع، ولا يبقى في النهاية إلا المحافظون المقلدون، الذين يحبون أن يبقى كل قديم على قدمه، وأن ما نعرفه خير مما لا نعرفه، وما جربته أفضل مما لم تجربه.

ونتيجة هذا أن تحرم الحركة من ثمرات العقول الكبيرة من أبنائها، وأن تصاب في النهاية بالجمود، أو العقم الذي أصاب الفقه والأدب في عصور التقليد، وأن يتقوقع هؤلاء على ذواتهم يأسا من أي عمل مثمر للإسلام، أو يعملوا فرادى نافضين أيديهم من جدوى أي عمل جماعي، أو يحاولون مع آخرين خوض تجربة جماعية أخرى لا تدرى عواقبها.

إن من أهم ما أضر بالعقل المسلم قديما، وأضر به حديثا، شيوع تلك المقولة التي تقول: ما ترك الأول للآخر شيئا! وليس في الإمكان أبدع مما كان!

ولا ينفع العقلَ المسلمَ شيء مثل شيوع !لفكرة المضادة التي تقول أبدا: كم ترك الأول للآخر، وكم في الإمكان أبدع مما كان "ويخلق ما لا تعلمون".