استكمالا  عن الأسباب المتعلقة بالأفراد التي تؤدي إلى التساقط أثناء السير في طريق الدعوة  يكمل الأستاذ فتحي يكن – حديثه في كتابه (المتساقطون على الطريق  كيف .. ولماذا ؟) أسباب التساقط بسبب الفرد نفسه ......[بتصرف ]

(4) التساهل والترخص : وهي من الأسباب التي تؤدى إلى التساقط على طريق الدعوة، فكما أن التطرف والغلو من الأسباب كذلك التساهل والترخص ...

فالذين يتساهلون في امتثالهم أمر الله والتزامهم أحكام الشرع سيجدون أنفسهم مندفعين من تساهل صغير إلى تساهل كبير، ومن تساهل في قضية إلى تساهل في كل قضية إلى أن يستحوذ الشيطان عليهم وعلى أعماهم وصدق من قال :

لا تحقرن صغيرة      إن الجبال من الحصى

إن شرع الله هو شرع الله، يجب أن يؤخذ كما هو من غير زيادة ولا نقصان.. فالذي يزيد فيه كالذي ينقص منه، وحدود الحلال والحرام يجب التزامها كما جاء به الشرع من غير تحايل عليها أو تأويل لها أو تساهل بها...

فالذي لا يعرف من صفات الله إلا أنه غفور رحيم يجب أن يصحح معلوماته ويعرف أنه كذلك شديد العقاب ....

والذي تتعود نفسه الرخص في كل حين لن يتمكن من حملها على العزائم في أي حين.. وهنا تقع البليلة حيث يسقط الإنسان في أول امتحان عزيمة ...

*عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً ))

* عن أنس رضى الله عنه قال :(( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات يعنى المهلكات ))

* وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وإن رسول الله صلى الله عليه وسم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطق فيجئ بالعود والرجل يجئ بالعود حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها )).

من هنا كان على العاملين في الحقل الإسلامي السائرين على درب الإسلام أن يحذروا الترخص والتساهل لأنها منافذ الشيطان إلى النفوس، وأن يأخذوا بالعزيمة ما استطاعوا من غير مغالاة أو تطرف وبدون إفراط أو تفريط متحرين في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا يحيد عنها إلا زائغ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((ومن رغب عن سنتى فليس منى ))..

5- الغرور وحب الظهور : ومن أسباب وخلفيات التساقط على طريق الدعوة داء الغرور وحب الظهور، وهو داء عضال يفتك بالدعاة فتكاً، يحبط عملهم، ويمحو ثوابهم ويشقى عاقبتهم ...

ولو أن هؤلاء نظروا فيمن سبقهم واعتبروا بمن قبلهم لما وقعوا فيما وقعوا فيه ولما سقطوا في الامتحان الذي سقط فيه إبليس وكان من الخاسرين ...

واذكر قول رسولنا صلى الله عليه وسلم ((إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله أما أنى لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية )) .

ولقد هزني هزاً حين قال : الله رب العزة والجبروت يقول عن نفسه في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلىّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة ) .

إن هذا وغيره ممن كبرت نفوسهم حتى أعمتهم عن معرفة حقيقة أنفسهم، إن هؤلاء بحاجة إلى صفعة في الدنيا توقظهم قبل فوات الأوان صفعة تفهمهم أنهم خلقوا من (بصقة) ومن (منى يمنى) ومن ( نطفة أمشاج)؛ فعلام يتكبرون، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بصق على كفه بصقة ووضع إصبعه عليه يقول الله تعالى : (( ابن آدم تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد؟ جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقى قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟)).

إن على العاملين في الحقل الإسلامي والدعاة إلى الله أن يدركوا أن دعوة الإسلام لا يصلح لها ويثبت عليها من كان مختالاً فخوراً، أو متكبراً مغروراً؛ فالداعية بحاجة لأن يجلس مع الناس ويتواضع للناس ويخدم الناس ويخفض جناحه للناس ويتقبل النصح والنقد من الناس هكذا كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم وهكذا كان الدعاة الأولون ممن تربوا في مدرسة النبوة رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين ...

-فعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل متكئاً يقول: ((آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد )) .

وعن جرير رضى الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم من بين يديه فاستقبلته رعدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد )).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف ولا يستكبر أن يجلس إلى المسكين والضعيف أو يذهب معه حتى يفرغ من حاجته وتستوقفه امرأة في الطريق حتى يقضى لها حاجتها فيفعل ويشارك أهل بيته والمسلمين الأعمال كلها كأي واحد منهم ...

على هذا الخلق سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لم يتسلل العجب إلى نفوسهم ولم يداخل الغرور قلوبهم، بل تواضعوا لله فرفعهم الله وأكرمهم في الدنيا والآخرة ...

وداء الغرور هذا قد يصيب في الدعوة العاملين في الحقل السياسي كما يصيب العاملين في الحقل التربوي، وإن بقيت (الإصابات ) في الحقل التربوي مخبوءة بعكس ما هو الحال على الساحة ذات الأضواء الكاشفة الفاضحة .

إن مناخ العمل السياسي في مجتمعاتنا مناخ فاسد، التعامل فيه يقوم على الغش والخداع والتحايل، والذي يبرع في هذا يعتبر ذكياً وناجحاً.. أما الذي يمارس السياسة بمصداقية وأخلاق ويلتزم بالموقف العقائدية الثابتة فيعد غبياً وفاشلاً ..

هذا المناخ الفاسد .. وهذا المنطق الأعوج له أثر حتمي على كل من يدخل حلبة العمل السياسي ولا يكون على جانب من الالتزام الإسلامي من التقوى إذ سرعان ما يألف الجو ويتأثر به تلقائياً بدون شعور ومن ثم يكون السقوط ..

أما الغرور الذي قد يصيب المربين والعابدين والزاهدين فإنه لا يقل خطورة من حيث النتيجة عما يصيب السياسيين.. يبدأ المرض لديهم من خلال العجب والزهو بأنفسهم ومن خلال شعورهم أنهم أفضل من غيرهم .. فهم الأتقى والأنقى والأعبد والأروع وينتهي إلى نتائج وخيمة وردود فعل سيئة قد تخرجهم من حظيرة الإيمان بالكلية ...

ألا فليسمع المغرورون المعجبون بأنفسهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ((ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرْء بنفسه )).

وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام ((لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب )).

قال مطرف: ((لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلى من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً )).

وقيل لعائشة رضى الله عنها (( متى يكون الرجل مسيئاً ؟ قالت : إذا ظن أنه محسن )).

(6) الغيرة من الآخرين : ومن الأسباب التي تؤدى إلى السقوط على طريق الدعوة الغيرة القاتلة من الآخرين، وبخاصة من المتقدمين والمرموقين والذين أوتوا نصيباً من الأهلية التي ينتقدها أولئك ...

فالجماعات تضم بين صفوفها أصنافاً شتى من الناس ومستويات شتى من المؤهلات الشخصية والنفسية والعصبية والفكرية فالذكاء مستويات.. والثقافة مستويات .. والقدرة على الكتابة والخطابة مستويات وهذا ما يجعل العاملين متفاوتين في العطاء والتأثير والتفاعل وفي كل شئ وهو أمر طبيعي وبديهي ...

ولكن بسبب الغيرة أحياناً يرفض (المحدودون ) أن يلتزموا حدودهم فيعمدون إلى (التسلق ) بشكل أو بآخر فيجهدون أنفسهم بدون طائل .. وقد يصاب بعضهم بصدمات نفسية تلقى بهم خارج الصف أو تدفعهم إلى الانتقام لأنفسهم ممن يعتبرونهم سبباً في فشلهم .. وهنا قد تقع الطامة حيث يتجاوز المرء حدود كل شئ متفلتاً من كل المثل والقيم والأخلاق لينال من أخيه الذي أضحى عنده عدواً لدوداً لا ترتاح نفسه قبل أن ينتقم منه .

ولكان التاريخ يعيد نفسه وصورة الغيرة القاتلة تتكرر من لدن ابني آدم (قابيل وهابيل ) حيث قال الله تعالى فيهما ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال : لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } .

والقرآن الكريم يشير إلى داء الغيرة والحسد في مواقع كثيرة من ذلك قوله تعالى" {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54) من سورة النساء.


 والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الغيرة والحسد في أحاديث كثيرة منها :

- عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم ، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )) .

- وعن ضمرة بن ثعلبة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا )).