سادساً: الشمول نظرتنا الكلية فهما وحركة

الفهم عند المسلمين في زمان الإمام البنا:

لقد تأمل الإمام البنا حال المسلمين في زمانه بوجه عام وحال قومه ووطنه بوجه خاص، ودرس ما يحمله المسلمون من مفاهيم، فوجد من الناس من يرى الإسلام شيئاً غير حدود العبادة الظاهرية، فإن أداها أو رأى من يؤديها اطمأن إلى ذلك ورضى به، وحسبه قد وصل إلى لب الإسلام، وذلك هو الشائع عند عامة المسلمين، كما رأى صنفاً آخر من الناس لا يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، وهذا الغذاء الفلسفي للعقل والروح والبعد بها عن أدران المادة الطاغية الظالمة، ومنهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعاني الحيوية العملية في الإسلام، فلا يتطلب النظر إلى غيرها، ولا يعجبه التفكير في سواها ومنهم من يرى الإسلام نوعاً من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية التي لا غناء فيها، ولا تقدم معها، فهو متبرم بالإسلام وبكل ما يتصل بالإسلام، وتجد هذا المعنى واضحاً في نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية، ولم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية، فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئاً أصلاً، أو عرفوه صورة مشوهة ممن لم يحسنوا تمثيله من المسلمين، فكثير من دعاة الحركة الوطنية والحركة القومية يعادون التيار الإسلام ودعاة الإصلاح الإسلاميين، ويعتمدون الغرب وفلسفته وحضارته مرجعاً فكرياً لهم، فهو مصدر الإلهام والإلزام كما ذكر أستاذنا الدكتور القرضاوي.

وتحت هذه الأقسام جميعاً تندرج أقسام أخرى يختلف نظر كل منها إلى الإسلام عن نظر الآخر قليلاً أو كثيراً، وقليل من الناس أدرك الإسلام صورة كاملة واضحة تنظم هذه المعاني جميعاً، وحتى ساد في عصره معان ومفاهيم كاد الناس يحسبونها من الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا التبديل ولا إعمال العقل، حتى صارت كالعقائد عندهم وإن كانت باطلة أصلاً ومنها مثلاً:

  1. أن التمسك بالدين نوع من التعصب، بل زاد البعض بأنه تجاهل لغير المسلمين.
  2. أن هذا الدين ناسب عصره وليس عاماً للناس كافة أبيضهم وأسودهم عربيهم وعجميهم.
  3. أن التدين من الأعمال الشخصية الفردية، أي لا صلة له بالحياة بنواحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من مناحي الحياة.

ولذا تميزت جماعة الإخوان المسلمون في زمانها عن غيرها من الجماعات الإسلامية حين دعا الإمام البنا إلى الرجوع إلى شمول الإسلام وعمومه، وفي هذا المعنى يقول في معنى الشمول:

أولاً: نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شئون الناس في الدنيا والآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن؛ فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صحيحه، ويوصي بالإحسان في جميعه وإلى هذا تشير الآية الكريمة )وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك( [القصص: 77].

وإنك لتقرأ قول الله تبارك وتعالى في العقيدة والعبادة "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة( [البينة: 5] كما تقرأ قوله تعالى: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً( [النساء: 65].

وما أكثر الآيات التي ذكرت في التشريع لتنظيم حياة الناس وفق منهج الله.

ثانياً: يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعانيها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبداً، ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية؛ حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما قيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه فالإسلام دين البشرية جميعاً.

ثالثاً: يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شئون الحياة في كل الشعوب والأمم، لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصاً في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشئون، ويرشد الناس إلى الطريقة العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها، ولضمان الحق والصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل عنى الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكيل، فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى ويغسلها من أدران المرض ويلهمها بتوفيق الله تقواها ويهدي بها إلى الكمال والفضيلة باعتبارها أداة التغيير )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( [الرعد: 11] وبهذا الفهم الدقيق الذي تميزت به جماعة الإخوان عن غيرها في عصرها تحققت أمور صح بها منهاج التفكير لكل من آمن بهذا الفهم منها:

  1. تحرير العقيدة من الجمود والأوهام، والتركيز بعد الفهم السليم لهذه العقيدة على أثرها في تكوين شخصية المسلم، بل وأثرها في الكون والإنسان والحياة.
  2. تخليص العقل من النظرة الجزئية للإسلام، فلا تضخيم للجزيئات والفرعيات على حساب الكليات، ولكن نظرة كلية شاملة بفهم واع وعقل مستنير.
  3. كسر الجمود الذي أصاب العقل من إغلاق باب الاجتهاد وإعادة ترتيبه وصياغته صياغة إسلامية.

وهكذا كان من ثوابت الجماعة النظرة الشمولية للإسلام ولعمومه، وكماله، وسموه، ودوامه، وعالميته، وربانيته، ليتحقق بذلك معنى العبادة الشامل ونحن نقول: إياك نعبد وإياك نستعين( [الفاتحة: 5] تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان المسلمون أن يبلغوها للناس، وأن تفهمها الأمة الإسلامية حق الفهم، وتهب لإنقاذها في عزم وفي مضاء، لم يبتدعها الإخوان المسلمون ابتداعاً، ولم يختلقوها من أنفسهم، وإنما هي الرسالة التي تتجلى في كل آية من آيات القرآن الكريم وتبدو في غاية الجلاء والوضوح في كل حديث من أحاديث الرسول العظيم، صلى الله عليه وسلم، وتظهر في كل عمل من أعمال الصدر الأول، الذين هم المثل الأعلى لفهم الإسلام وإنفاذ تعاليم الإسلام.

 مَهَمتنا في الحياة:

فعبادة ربنا، والجهاد في سبيل التمكين لديننا، وإعزاز شريعتنا، يمثل مَهَمتنا في الحياة؛ ولهذا المعنى جاء في أوصاف صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم صفوة الله من خلقه بعد أنبيائه ورسله، والسلف الصالح من عباده: "رهبان بالليل، فرسان بالنهار" كان المسلمون يفهمون هذا قديماً، ويعملون له، ويحملهم إيمانهم على التضحية في سبيله، وبهذا دعا إلينا مجدداً هذا الفهم.

ونحن حين نبين ذلك يجب أن نشير إلى ما يميز هذه الدعوة عن غيرها من الدعوات فهي:

  1. ربانية في مصدرها لأنها وحي من عند الله.
  2. وسطية في اختيار الله لها.
  3. إيجابية في نظرتها للكون والإنسان والحياة.
  4. واقعية حين تتعامل مع الفرد والمجتمع.
  5. أخلاقية في غايتها ووسائلها.
  6. شمولية في منهاجها.
  7. عالمية في الدعوة إليها.
  8. شورية في الحكم بها.
  9. جهادية في تربيتها لتحمى طريقها حين يعتدى عليها.
  10. سلفية الفكر والتصور والاعتقاد.

هذه دعوتنا بدينها ودنياها، بمشاعرها وشعائرها وشرائعها، بنظامها وأخلاقها نحملها بيقين صادق، وإيمان عميق، وحب وثيق، لا لبس فيها ولا غموض أوضح ما تكون، ليراها الناس على حقيقتها، فالله هو الغاية، والرسول هو القدوة، والقرآن هو الدستور، والجهاد هو السبيل، والموت في سبيل الله هو أسمى الأماني، وهذا كله من ثوابت دعوتنا، فالإخوان المسلمون يعتقدون أن منهج الإسلام ينظم الحياة جميعاً، ويفتى في كل شأن من شئونها، ويضع لها نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوف الأيدي أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لابد منها لإصلاح الناس، فهو ليس مقصوراً على ضروب العبادات، أو أوضاع من الروحانيات كما فهمه بعض الناس لكننا – كما يقول الإمام البنا- نفهمه على أنه ينظم شئون الدنيا والآخرة، وهو يصلح الزمان والمكان، ويسعد الناس أجمعين حين يصبح منهج حياة في واقع حياتهم.

لقد نهج رضوان الله عليهم نهج السلف الصالح، ودعا بدعوته فأحيا قديماً كاد الناس أن ينسوه، وأعاد للعقول منهاجاً في التفكير الإسلامي السليم، ومن يومها مضت هذه اليقظة الإسلامية – التي أرشدها الإمام البنا إلى ثوابت الإسلام ومتغيراته كمنهج أصيل للمسلمين ليس لنا الخيرة فيه، وانطلق بأتباعه إلى ميادين الحياة المختلفة بشتى أنواعها ليحقق الشمول، وليعيد صياغة العقول من جديد صياغة إسلامية؛ ليصونها من الغزو الفكري، والنهج الغربي والنظرة الجزئية، ليستعيد المسلم تصوره السليم وتفكيره المنضبط الذي سبه به من قبل رجال نهلوا من نبع المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ونهجه، فبنوا به حضارة، وأقاموا نظاماً، وأرسو قيماً، بفهم دقيق، استطاعوا أن يستعيدوا به قدرته على المقاومة والدفاع عن دينهم وعقيدتهم، بتضافر الجهود، وتوحيد الصفوف، والاجتماع على الأهداف السامية.

وها هي ذا آية واحدة من كتاب ربنا تبين بوضوح وجلاء هذا الشمول الذي أشرنا إليه بعقيدته وعبادته ونظامه الشامل، يتضح ذلك في قول ربنا: )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( [البقرة: 177]  فهذه آية واحدة تشير إلى الشمول في الإسلام تضمنت العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، لهذا كان الإمام البنا دائماً ما يردد: الإسلام دين ودولة.

وإن تعجب فاعجب لقوم يؤمنون بأن تقوم دولة على التوراة في فلسطين الحبيبة، وتقوم دولة على الإنجيل في الفاتيكان، ودولة على الإلحاد في روسيا والصين، بل على البوذية والهندوسية، ولا تقام على القرآن. إن هذا لشيء عجاب.. هذا هو الذي دعا للعودة إليه الإمام البنا للإسلام –بوجه عام- وهذا ما آمن به كل من دعا بدعوته وضحى من أجله. ولكي يحافظ الأتباع على هذا الفهم حتى لا ينحرف به أحد أو يشوهه مغرض أو ينأى به متحمس، وحتى لا يعرف الأصيل من الدخيل والمتبع من المبتدع وحامل الفكرة من مشوهها كان لابد من أن يكون هذا الفهم من ثوابت الدعوة الأصيلة ومعلماً من معالمها التي تعرف بها بل تنتفى سلامها وعافيتها ويضطرب مسيرها وتزل قدمها بعد ثبوتها، ويخشى من ذوبانها وعدم دوامها واستمراريتها إذا حادت عن الفهم.

بهذه الثوابت ننطلق ونقوِّم عملنا على أساسها، ونفئ إليها عند الاختلاف، ونفاصل على أساسها من أرادها بسوء، ونتغافر فيما سواها ونتعاون مع غيرنا ومن يخالفنا مادام يحترم ثوابتنا ولا يعمل على استئصالها. ولذلك فهي التي تميزنا عن غيرنا من الدعوات الإصلاحية الجزئية.

إنه المنهج الذي يسوس الدنيا ليسعد الخلق فيها، قبل أن يلتقوا بالخالق، فهو دين ودولة.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين عليه رحمه الله.