فتحي السيد 

يسعى النَّاسِ جاهدينَ لتحقيقِ السَّعادةِ والنَّجاحِ، ونَجَاحُ الإنسانِ في حياتِهِ يَكمُنُ في صِدْقِهِ، وإخلاصِه مع رَبِّهِ، وتطبيقِه لأحكامِ شَرعِهِ، ومعاشرتِه للنَّاسِ بأحسنِ الأخلاق وأفضلها، وحماية اللسان من الخوض فيما لا يَعني و لا يُغني، لأنّ الرسولَ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد وجّه المسلمَ لاغتنام طاقاتِه فيما ينفعُه، وتركِ ما يضرُّه، ففي الحديث الصحيح: "مِن حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُه مَا لا يَعنِيهِ" رواه الترمذيّ وحسّنه.

 التغافل خلق عظيم، و فن من فنون التعامل مع الناس، لا يتقنه إلا كل حليم، والتغافل هو تعمد الغفلة، هو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرما وترفعا عن سفاسف الأمور.

ومن أجمل الأقوال في التغافل:

الإمام الحسن البصري: مازال التغافل من فعل الكرام .
عبد الله ابن المبارك :والمؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يتصيد الزلات
ابن الجوزي: من أرقى شيم الكرام التغافل عن الزلات؛ فإن الناس مجبولون على الزلات، إن اهتم المرء بكل زلة تعب وأتعب، أما العاقل الذكي فهو من لا يدقق بكل صغيرة وكبيرة مع أحبابه وأهله وزملائه وجيرانه؛ لكى تحلو مجالسته وتصفو عشرته؛ فالتغافل فن لا يتقنه إلا العظماء، وهو أسلوب بديل للتغاضي عن البغض والقطيعة .
و الكريم لا يكتفى بالعفو والصفح، وإنما يتجاوز ذلك للتعامل الحسن. ومن أجمل وأعظم مواطن التغافل قول سيدنا يوسف "من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى" على الرغم من أن الشيطان نزغ إخوته، ولكنها من مكارم الأخلاق .قال تعالى: "ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم " سورة فصلت الآية
(34).
 فن التغافل عن هفوات الآخرين لا يجيده ولا يتقنه إلا حكيم سعيد، وكلما أجَدْنا التغافل أقفلنا بابا من أبواب الشر .
إن شر الناس منزلة يوم القيامة من يتقيه الناس مخافة لسانه، ولنبتعد عن التدقيق بالتفاصيل، يرهق أنفسنا بالتفكير أما بالتغافل تطيب حياتنا ومجالسة الآخرين .
ومن فضائل التغافل مارواه البيهقي في مناقب الإمام أحمدعن عثمان بن زائدة قال " العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل ".فحدثت به أحمد بن حنبل فقال : " العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل".
 التغافل فن من فنون الحياة المهمة، والمتغافل إنسان لين مع نفسه ومع الآخرين .
الأب والأم المتغافلان عن الزلات يكسبان أطفالهم هذا الخلق ولا يخلو أحد من نقص فعلينا بالتغافل عن الزلات و التغافل عن ما لا يهم هو العقل والمرء لا يكون عاقلا إلا عندما يتغافل عن ما لا يعنيه .

ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي!

لا يخلو شخص من نقص، ومن المستحيل على أي زوجين أن يجد كل ما يريده أحدهما في الطرف الآخر كاملاً.. كما أنه لا يكاد يمر أسبوع دون أن يشعر أحدهما بالضيق من تصرف عمله الآخر، وليس من المعقول أن تندلع حرب كلامية كل يوم، وكل أسبوع، على شيء تافه كملوحة الطعام أو نسيان طلب، أو الانشغال عن وعد "غير ضروري" أو زلة لسان ، فهذه حياة جحيم لا تطاق!

ولهذا على كل واحد منهما تقبل الطرف الآخر والتغاضي عما لا يعجبه فيه من صفات، أو طبائع، وكما قال الإمام أحمد بن حنبل: "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل" وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور .

والحسن البصري يقول: "ما زال التغافل من فعل الكرام".. وبعض الرجال – هداهم الله – يدقق في كل شيء وينقب في كل شيء فيفتح الثلاجة يومياً ويصرخ لماذا لم ترتبي الخضار أو تضعي الفاكهة هنا أو هناك ؟! لماذا الطاولة علاها الغبار ؟! كم مرة قلت لك الطعام حار جداً ؟! الخ وينكد عيشها وعيشه !!

وكما قيل: ما استقصى كريم قط ، كما أن بعض النساء كذلك تدقق في أمور زوجها ماذا يقصد بكذا؟ ولماذا لم يشتر لي هدية بهذه المناسبة؟ ولماذا لم يهاتف والدي ليسأل عن صحته؟ وتجعلها مصيبة المصائب وأعظم الكبائر.. فكأنهم يبحثون عن المشاكل بأنفسهم !!

كما أن بعض الأزواج يكون عنده عادة لا تعجب الطرف الآخر، أو خصلة تعود عليها، ولا يستطيع تركها – مع أنها لا تؤثر في حياتهم الزوجية بشيء يذكر – إلا أن الطرف الآخر يدع كل صفاته الرائعة ويوجه عدسته على تلك الصفة، محاولاً اقتلاعها بالقوة.. وكلما رآه علق عليها، أو كرر نصحه عنها؛ فيتضايق صاحبها، وتستمر المشاكل.. بينما يجدر التغاضي عنها تماما ً، أو يحاول لكن في فترات متباعدة، وليستمتعا بباقي طباعهما الجميلة.. فلنتغاضى قليلاً حتى تسير الحياة سعيدة هانئة لا تكدرها صغائر،

ولتلتئم القلوب على الحب والسعادة، فكثرة العتاب تفرق الأحباب.