تحدث العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في المقال السابق عن تعامل الحركة الإسلامية مع النخبةالمثقفة والعناية بها ثم يكمل الحديث عن :

الحركة الإسلامية وجماهير الشعب

والعناية بالنخبة المثقفة لا يعني إهمال الجماهير، إذ لا تعارض بين الأمرين، ومن الخصائص الأساسية للحركة الإسلامية: أنها حركة شعبية؛ بمعنى أنها ليست حركة حكومية رسمية، ولا حركة أرستقراطية، بل حركة انبثقت من أعماق الشعب لتعبر عن ضميره، وتتفاعل مع نبضه، وتتعايش مع جماهيره، لتنطق باسمهم، وتشد أزرهم في مطالبتهم بحقوقهم.
ولقد حاولت القوى المعادية للحركة في الخارج، وعملاؤها في الداخل، أن يعزلوا جماهير الشعب عن الحركة، بالتشويش والتشويه حينا، وبالتخويف والإرهاب حينا، وبغير ذلك من الوسائل. ولكن الأخطر من هذا أن تعزل الحركة نفسها عن الشعب: استعلاء عليه، أو اتهاما له، أو تهوينا من شأنه، أو يأسا منه، أو انشغالا عنه، نعم هذا هو الخطر: أن تنسى الحركة موقعها من الشعب وموقع الشعب منها، وأن تنشغل عن هموم الجماهير ومتاعبها، وتتقوقع على نفسها، تكلم نفسها، وتسمع نفسها، وبذلك تسجن الحركة ذاتها اختيارا في قفص العزلة عن الشعب.

إنما تنجح الحركة حقا يوم تستطيع تحريك الشعب معها، وأن ينتصر لها ويغضب لغضبها، ويرضى برضاها، ويقدر مواقفها وجهودها، ويلعن خصومها. وأن تجعل همها اندماج الحركة في الشعب، بحيث تجري فيه كما يجري الدم في العروق والشعيرات، وتختلط به كما تختلط الروح بالجسد، أو النور بالعين، فلا يستطاع فصل الحركة عن الشعب، ولا عزل الشعب عن الحركة.
وهذا لا يتم إلا يوم تتبنى الحركة هموم الناس، وتنفعل بقضاياهم، وتفرح لفرحهم وتأسى لأساهم، وتشاركهم في سرائهم وضرائهم، ترقص معهم إذا طربوا، وتبكي معهم إذا حزنوا، وتثور معهم إذا ثاروا، فهي منهم، وهم منها، وهي لهم، وهم لها.

التبصير بالحقائق لا التخدير بالأحلام:
وإيماننا بالشعوب وقوة الجماهير لا يعني أن نضللها عن الحقائق المرة، وأن نخدرها بالأماني الفارغة. إن على دعاة الحركة ومفكريها أن يصارحوا الأمة بأمراضها، ولا يكتموها عنها، كما يفعل الناس في مجتمعاتنا مع ذوي الأمراض الخطيرة، وأن يبصروا الشعوب بالحقائق، وإن كانت مرة، لا أن يخدروها بالأحلام الوردية، دون أن يسلكوا لتحقيقها أي سبيل.
لقد فرق علماء التربية الصوفية بين الرجاء والتمني، وقالوا: الرجاء ما قارنه عمل، وإلا فهو أمنية! والرجاء هو حافز المؤمنين، والأماني هي شغل الفارغين. والقرآن يقول لمن جعلوا الجنة حكرا عليهم، بلا إيمان ولا عمل: (تلك أمانيهم قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة:111). ويقول الإمام علي كرم الله وجهه لابنه الحسن: إياك والاتكال على المنى، فإنها بضائع النوكى (أي الحمقى)!
ويقول الشاعر:  

ولا تكن عبد المنى، فالمنى  رءوس أموال المفاليس!
إن الرجاء والأمل والشوق إلى غد أفضل هو الغذاء والوقود لأي حركة تعمل على تغيير الواقع المظلم إلى مستقبل مشرق. ولكن الأمل والرجاء غير الأماني، فالأماني قد تجتمع مع اليأس من الوصول إلى المراد، بخلاف الأمل والرجاء، فهما نقيض اليأس والقنوط، يقول الشاعر:
أعلل بالمنى قلبي، لعلي  أسري بالأماني الهم عني

وأعلم أن وصلك لا يرجى  ولكن لا أقل من التمني!

وكما يجب أن نبّصر الناس بمرارة الواقع، علينا أن نبصرهم بأخطار المستقبل؛ حتى يوطنوا أنفسهم على احتمال آلامه، ولا يتوهموا أنه ورد لا شوك فيه، وأن السماء ستمطر عليهم فيه سمنا وعسلا، دون أن تكدح منهم اليمين، و يعرق الجبين.
هناك خطأ يجب التنبيه على تصحيحه في طرح الشعارات الإسلامية والحلول الإسلامية للجماهير الإسلامية. فحينما يتنادى الإسلاميون: الإسلام هو الحل، ولا صلاح لنا إلا بالإسلام، والإسلام هو سفينة الإنقاذ مما نتخبط فيه من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، يتصور جماهير الناس، أن مجرد رفع هذا الشعار، وتأييد أصحابه ودعاته في الانتخابات وحصولهم على عدد كبير من المقاعد..الخ.
سيحل كل المشاكل المعلقة بعصا سحرية أو معجزة سماوية! وهنا يتعين على الإسلاميين ودعاتهم ومفكريهم أن يبينوا للناس بوضوح كاف: أن الإسلام يحل مشكلات الناس عن طريق الناس أنفسهم، وأن الله لا ينزل عليهم ملائكته تقوم عنهم بزراعة الأرض، أو بتنمية الثروة الحيوانية أو السمكية، أو بتقوية الصناعة، أو بتنشيط التجارة، أو بإقامة هياكل البنية الأساسية، أو بتجنيد طاقات الأمة للعمل المنتج، وصرفها عن العبث وتبديد القوى. إن الناس هم الذين يقومون بهذا كله وبغيره، مما تحتاج إليه الحياة الطيبة ويفتقر إليه المجتمع الصالح المعاصر، وتنشده الإنسانية الراشدة.

لقد قال عمر بن الخطاب لمن قعدوا في المسجد متوكلين على الله: لا يقعدن أحدكم عن طلبه الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة؟ إن الله يقول: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله) (سورة الجمعة:10).

إن القرآن قد قرر بجلاء، هذه السنة التي لا تتخلف: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (سورة الرعد:11). وهذا هو المنطلق الأول: تغيير ما بالأنفس من مفاهيم مغلوطة، وأفكار ميتة فاسدة، وأخلاق مذمومة، وصفات مرذولة، إلى مفاهيم صحيحة، وأفكار حية وصالحة وأخلاق محمودة، وصفات طيبة. يجب أن يتهيأ الناس لحياة غير الحياة التي ألفوها: حياة إنتاج وعمل لا بطالة وكسل، حياة جد لا هزل، حياة تقشف لا ترف، حياة عدل لا محاباة، حياة عرق لا دعة، حياة إصرار لا استرخاء.

تصحيح المفاهيم المغلوطة:
ومن واجب الحركة ودعاتها: أن يصححوا المفاهيم الإسلامية المغلوطة عند جماهيرنا المسلمة؛ حتى تكون عامل بناء لا عامل هدم، وحافز تقدم لا داعي تخلف. لقد فهم كثير من المتدينين بعض القيم الدينية الكبيرة فهما مغلوطا، وذلك مثل قيم: الإيمان والتقوى والصلاح والاستقامة. فإذا قال القرآن: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (الأعراف: 96). أو قال: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق: 2،3). أو قال: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (الأنبياء: 105) أو قال: (ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) (الجن:16).
إذا قال القرآن ذلك فهم هؤلاء أنه مجرد إقامة الشعائر من الصلاة والصيام والتسبيح، التهليل والتكبير، واجتناب المحرمات من الخمر والميسر، وهذا لا شك جزء أساسي من الدين، ولكنه ليس كل الدين، ولا كل الإيمان والتقوى. إن الله كما خلق الإنسان ليعبده (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) خلقه ليكون في الأرض خليفة يعمرها بالعلم والعمل (إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة:30) (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود:61). معنى (استعمركم) أي طلب إليكم أن تعمروها. بل هذه العمارة نوع من العبادة.
إن الإيمان والتقوى والصلاح والاستقامة توجب علينا أن نوازن بين ديننا ودنيانا، وأن نتعبد الله بمراعاة سننه الكونية، وأن نعد لأعدائنا ما استطعنا من قوة، وأن نغرس، ونزرع، ونصنع، ونقوم بكل علم أو صناعة تحتاج إليها الأمة في دينها أو دنياها، وهو ما اعتبره فقهاء المسلمين فرض كفاية تأثم الأمة كلها بالتفريط فيه.
إن التقوى المنشودة ليست مسبحة درويش، ولا عمامة متمشيخ، ولا زاوية متعبد. إنها علم وعمل، ودين ودنيا، وروح ومادة، وتخطيط وتنظيم، وتنمية وإنتاج، وإتقان وإحسان "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" "إن الله كتب الإحسان على كل شيء".

إن النبي صلى الله عليه وسلم حث على إتقان أي عمل يمارسه المسلم، ولو كان قتل وزغة. ففي الحديث: "من قتل وزغة في أول ضربة كتب له مئة حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، (أي أقل من الأول ) ومن قتلها في الضربة الإتقان فله كذا وكذا حسنة" أي أقل من الثاني. الإتقان مطلوب في أي عمل ولو كان تافها في نظر الناس.
إن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا الدين على أنه رهبانية أو دروشة، ولم يفهموا الإيمان والتقوى على أنها انقطاع عن الحياة، أو انشغال عن تنميتها بالتفرغ للشعائر.
إن عبد الرحمن بن عوف حين قابل إيثار أخيه في الإسلام سعد بن الربيع بالتعفف الكريم وقال قوله: "إنما أنا امرؤ تاجر، فدلوني على السوق" وتاجر وربح الملايين، لم يخرج عن دائرة الإيمان والتقوى، ولم يبعد عن زمرة المتقين، بل كان من العشرة المبشرين بالجنة، الذين توفى رسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وكان من الستة أصحاب الشورى. إن المؤمنين المتقين هم الذي يأخذون بالأسباب، ويجتهدون، أن يكونوا دائما (أحسن عملاً) مسلحين بالتوكل على الله، معتصمين بمكارم الأخلاق. ولهذا يبارك الله جهودهم في الدنيا، ولا يضيع أجرهم في الآخرة.

منقول بتصرف من كتاب – أولويات الحركة الإسلامية للعلامة فضيلة الدكتور  يوسف القرضاوي