﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هي حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (سورة القدر).
هذا كتابنا ينطق على الناس بالحق، يهتف بالسلام، ويشيد بالسلام، ويقر على الأرض السلام، وينزل في موكب من الملائكة، يحدوه ويحفُّ به السلام، وتحيتُنا فيما بيننا ويوم نلقَى ربنا سلام، وختامُ صلواتنا ومناجاتنا سلام، وربنا الله الملك القدوس السلام، الذي أعدَّ للصالحين من عباده دار السلام، وديننا الإسلام، ومادته السلام، ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف: 89).
ويوم اتخذنا السلام شعارًا لم نقف عند حدوده النظرية، أو مدلولاته اللفظية، ولكنَّ السلام الذي أراده الله لعباده في ظل الإسلام يقوم على دعامتين:
على النظام الاجتماعي الكامل في القرآن الكريم الذي أنزله الله في ليلة السلام؛ فجاء يعلن الأخوَّة العالمية، ويرفع من مستوى النفس الإنسانية، ويكشف للبصائر عن حقائق الربانية، ويقيم دعائم العدالة الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، وبين الضعيف والقويّ، والفقير والغنيّ، والرجل والمرأة، ويشيع في المجتمع معنى التكافل الحق الذي يشيع في كل نواحيه معاني الحب والسعادة والطمأنينة والسلام، ومن قرأ القرآن وأمعن النظر في توجيهاته وشرائعه وأحكامه عرف صدق ذلك ومواضعه من هذا الكتاب الكريم، الذي لم يدع خيرًا إلا أمر الناس به، ولم يدع شرًّا يؤذيهم إلا نهاهم عنه.. ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: من الآية 88) هذه واحدة.
والثانية الأمة المؤمنة بهذا النظام، والدولة القائمة عليه تفقهه، وتؤمن به، وتدافع عنه، وتدعو إليه، وترشد البشرية إلى ما فيه، من خير وجمال ورحمة، وتجاهد في سبيل ذلك بكل ما تملك، ولا تخشى في ذلك لومة لائم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية 67)، وبذلك اقترن الوضع النظري بالكفاح العملي، فحفظ الأمن، واستقرَّ على الأرض السلام.
والآن أيها المسلمون..
تطالعكم هذه الليلة بهذه الذكريات، كما طالعتكم بها أكثر من ألف وثلاثمائة وسبعين مرة؛ فهل تكتفون من هذه الذكرى بترقُّب السماء لتتسلوا بمرأى الكواكب والنجوم الزاهرة، وبانتظار سعادة الأحلام وكنوز الأوهام، أم تثير في أنفسكم هذه الذكريات الروعة واللوعة والأسى والهمَّة؛ فتُجَدِّدوا مع الله عهدًا موثَّقًا أن تعودوا إلى دراسة هذا النظام الكامل حتى تتفقَّهوا فيه، وأن تجتمع قلوبكم عليه حتى تقوم فيكم من جديد دولته، فتعتز بكم في العالمين دعوته؟!
أيها المسلمون..
هذه ليالي رمضان الغالية، قد آذنت بوداع، وتجهَّزت للرحيل، ولم يبقَ منها إلا القليل، وبين يديكم هذه الليلة المباركة التي هي خيرٌ من ألف شهر، ويقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان.. مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (صحيح الإمام مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس: 1/209 رقم 233)، و"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (صحيح الإمام البخاري، كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر من الإيمان: 1/21 رقم 35، وصحيح الإمام مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: 1/523 رقم 760)، ويقول الله عز وجل: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: من الآية 185)، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186)؛ فهو يهيب بعباده في هذه الآية الكريمة أن ينتهزوا فرصة تمام الشهر وكمال عدته؛ ليشكروا الله على نعمته، وليستمروا في الإقبال على طاعته، وليسألوه من فضله، ويستغرقوا في مناجاته؛ حتى يفوزوا بفضل هذا الشكر وعظيم بركته وجزيل مثوبة الله- تبارك وتعالى- فيه للطائعين من عباده.
وليس أحدٌ يدري أين هو من رمضان القادم؟! وأين رمضان القادم منه؟! فخذوا من يومكم لغدكم ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).
---------
* جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (96)، السنة الأولى، 26 رمضان 1365ﻫ/ 23 أغسطس 1946م، ص (1).