في ذكرى الإسراء والمعراج

القدس في الاعتقاد الإسلامي، لها مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ، اتفق على ذلك المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فهو إجماعُ الأمَّة كلها من أقصاها إلى أقصاها.

ولا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس، والغيرة عليها، والذَّودِ عن حِمَاها، وحُرماتِها ومُقدساتها، وبذلِ النفسِ والنفيسِ في سبيل حِمايتها، ورد المعتدين عليها، وقد اختلف المسلمون والعرب والفلسطينيون في الموقف من قضية السلام مع الصهاينة: هل يجوز أم لا يجوز؟! وإن جاز: هل ينجح أو لا ينجح؟!

ولكنهم جميعًا- مسلمين وعربًا وفلسطينيِّين- لم يَختلفوا حول عُروبة القدس وإسلاميتها، وضرورة بقائها عربيةً إسلاميةً، وفرضيَّة مقاومة المحاولات الصهيونية المستميتة لتهويدها، وتَغْيِير مَعَالمها، ومسْخ شخصياتها التاريخية، ومحو مظاهر العروبة والإسلام والمسيحيَّة منها، فللقدس قُدسيَّةٌ إسلاميَّةٌ مَقدورةٌ، وهي تمثل في حس المسلمين ووعيهم الإسلامي القِبلة الأولى وأرض الإسراء والمعراج وثالث المُدُن المعظَّمة، وأرض النبوات والبركات، وأرض الرباط والجهاد، كما سنبيِّن ذلك فيما يلي

القدس.. القبلة الأولى

أول ما تمثله القدس في حس المسلمين وفي وعيهم وفكرهم الديني أنها (القبلة الأولى) التي ظلَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه يتوجَّهون إليها في صلاتهم منذ فُرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة المحمديَّة، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، وظلوا يصلون إليها في مكة، وبعد هجرتهم إلى المدينة ستة عشر شهرًا، حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، أو المسجد الحرام، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: 150).

وفي المدينة المنورة مَعلَمٌ أثريٌّ بارزٌ يُؤكد هذه القضيَّة، وهو مسجد القبلتين، الذي صلَّى فيه المسلمون صلاةً واحدةً بعضها إلى القدس، وبعضها إلى مكَّة، وهو لا يَزال قائمًا، وقد جُدِّد وتعهِّد، وهو يُزارُ إلى اليوم ويُصلَّى فيه، وقد أثار اليهود في المدينة ضجَّةً كبرى حول هذا التحوُّل، وردَّ عليهم القرآن بأن الجهات كلها لله، وهو الذي يُحدِّد أيَّها يكون القِبلة لمن يُصلِّي له: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إلى أن يقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِين هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ (البقرة: 142- 143)، فقد قالوا إن صلاة المسلمين تلك السنوات قد ضاعت وأُهدِرت؛ لأنها لم تكن إلى قِبلةٍ صحيحةٍ، فقال الله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم؛ لأنها كانت كصلاة إلى قبلة صحيحة مَرْضِيَّة عنده عزَّ وجلَّ.

القدس أرض الإسراء والمعراج

وثاني ما تُمثله القدس في الوعي الإسلامي أن الله تعالى جعلها مُنتهَى رحلة الإسراء الأرضيَّة، ومبتدأ رحلة المعراج السماويَّة، فقد شاء الله أن تبدأ هذه الرحلة الأرضيَّة المحمديَّة الليلة المباركة من مكَّةَ ومن المسجد الحرام؛ حيث يُقيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأن تنتهي عند المسجد الأقصى، ولم يكن هذا اعتباطًا ولا جُزافًا، بل كان ذلك بتدبيرٍ إلهي ولحكمة ربَّانية، وهي أن يَلتقيَ خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسل الكرام، ويصلي بهم إمامًا، وفي هذا إعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بني إسرائيل إلى أمَّةٍ جديدة ورسولٍ جديد وكتابٍ جديدٍ.. أمَّة عالمية، ورسول عالمي، وكتاب عالمي، كما قال تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107) ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: 1).

لقد نصَّ القرآنُ على مبتدأ هذه الرحلة ومنتهاها بجلاء في أوَّل آية في السورة التي حَمَلَت اسم هذه الرحلة (سورة الإسراء)، فقال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ (الإسراء: 1)، والآية لم تَصف المسجد الحرام بأيِّ صفة مع ما له من بركات وأمجاد، ولكنها وصفت المسجد الأقصى بهذا الوصف ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ وإذا كان ما حوله مباركًا، فمن باب أولى أن يكون هو مباركًا.

وقصة الإسراء والمعراج حافلة بالرموز والدلالات التي تُوحي بأهمية هذا المكان المُبارك، الذي ربَط فيه جبريلُ البراقَ، الدابة العجيبة التي كانت وسيلةُ الانتقال من مكَّة إلى القدس، وقد ربطها بالصخرة حتى يَعود من الرحلة الأخرى، التي بدأت من القدس أو المسجد الأقصى إلى السموات العُلا، إلى ﴿سِدْرَةِ المُنْتَهَى﴾، وقد أورث ذلك المسلمين من ذكريات الرحلة الصخرة، وحائط البراق.

لو لم تكن القدس مقصودة في هذه الرحلة لأمكن العروج من مكَّة إلى السماء مباشرةً، ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمرٌ مقصودٌ، كما دَلَّ على ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ومن ثمرات رحلة الإسراء الربط بين مُبتدأَ الإسراء ومُنتهاه، وبعبارة أخرى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا الربط له إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المُسلم وضميره ووجدانه؛ بحيث لا تنفصل قدسيَّة أحد المسجدين عن قدسيَّة الآخر، ومَن فرَّط في أحدهما أوشك أن يُفرِّط في الآخر.

القدس ثالث المدن العظيمة

والقدس ثالث المدن المُعظَّمة في الإسلام؛ فالمدينة الأولى في الإسلام هي مكة المكرَّمة التي شرَّفها بالمسجد الحرام، والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة، أو المدينة المنوَّرة التي شرَّفها الله بالمسجد النبوي، والتي ضمَّت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمدينة الثالثة في الإسلام هي القدس أو بيت المقدس، والتي شرَّفها الله بالمسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وفي هذا صحَّ الحديث المتَّفق عليه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"لا تُشدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثِة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".. فالمساجد كلها متساوية في مثوبة من صلى فيها، ولا يجوز للمسلم أن يَشدَّ رحالَه- بمعنى أن يَعزِم على السفر والارتحال للصلاة في أي مسجدٍ كان- إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة، وقد جاء الحديث بصيغة الحصْر، فلا يُقاس عليها غيرها.

وقد أعلن القرآن عن أهميَّة المسجد الأقصى وبركته قبل بناء المسجد النبوي وقبل الهجرة بسنوات، وقد جاءت الأحاديث النبوية تُؤكد ما قرَّره القرآن، منها الحديث المذكور والحديث الآخر: "الصلاة في المسجد الأقصى تَعدِل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدَا المسجد الحرام والمسجد النبوي" (متَّفقٌ عليه)، ومنها ما رواه أبو ذر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سئل: أي المساجد بني في الأرض أول؟! قال: "المسجد الحرام"، قيل ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" (حديث متفق عليه).

والإسلام حين جعل المسجد الأقصى ثالث المسجدَين العظيمَين في الإسلام أضاف القدس إلى المدينتين الإسلاميتين المعظمتين- مكة والمدينة- فإنه إنما أراد بذلك أن يقرِّر مبدأً مهمًّا من مبادئه، وهو أنه جاء لِيَبْنِي لا لِيَهْدِم، ولِيُتَمِّم لا لِيُحَطِّم، فالقدس كانت أرض النبوات، والمسلمون أوْلى الناس بأنبياء الله ورُسُلِه كما قال الرسول ليهود المدينة: "نحن أولى بموسى منكم".

القدس أرض النبوات والبركات

والقدس جزءٌ من أرض فلسطين، بل هي غُرَّة جبينها، وواسطة عقدها، ولقد وصف الله هذه الأرض بالبركة في خمسة مواضع في كتابه:

أولها: في آية الإسراء، حين وصف المسجد الأقصى بأنه:﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾.

وثانيها: حين تَحدث في قصة خليله إبراهيم، فقال ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأّرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا للعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 71).

وثالثها: في قصة موسى؛ حيث قال عن بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وجنوده:﴿وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِق الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ (الأعراف: 137).

ورابعها: في قصة سليمان وما سخَّر الله له من مُلكٍ لا يَنبغي لأحدٍ من بعده، ومنه تسخير الريح، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الِّريحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ (الأنبياء: 81).

وخامسها: في قصة سَبأ، وكيف مَنَّ الله عليهم بالأمن والرغَد، قال تعالى:﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنَينَ﴾ (سبأ: 18).. فهذه القرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام وفلسطين.

قال المُفسِّر الآلوسي: المُراد بالقرى التي بُورك فيها: قرى الشام، لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها، وعن ابن عباس: هي قرى بيت المقدس، وقال ابن عطية: إن إجماع المُفسِّرين عليه (روح المعاني للآلوسي: 32 / 129).

وقد ذهب عددٌ من مُفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِيِنِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ (التين: 1- 3) إلى أن التين والزيتون يُقصد بهما الأرض أو البلد التي تنبت التين والزيتون، وهي بيت المقدس.

قال ابن كثير: قال بعض الأئمَّة: هذه مَحَالٌّ ثلاث، بعث الله من كلِّ واحد منها نبيًّا مرسلاً من أولى العزم، أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: مَحل التين والزيتون وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، والثاني: طُور سيناء، الذي كلَّم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي مَن دخله كان آمنًا.

وبهذا التفسير أو التأويل تتناغم وتنسجم هذه الأقسام، فإذا كان البلد الأمين يُشير إلى مَنْبِت الإسلام رسالة محمد، وطور سينين يشيران إلى رسالة عيسى الذي نشأ في جوار بيت المقدس، وقدَّم موعظته الشهيرة في جبل الزيتون (تفسير القاسمي: 17/9196 وقد ذكر أن الكلام الذي نقله ابن كثير هو من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية).

القدس أرض الرباط والجهاد

والقدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد، فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصى وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه من المُبشِّرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وستكون للمسلمين، وسيشدون الرحال إلى مسجدها، مصلين لله مُتعبِّدين، وقد فُتِحت القدس- التي كانت تسمى إيلياء في عهد الخليفة الثاني في الإسلام عمر بن الخطاب- واشترط بِطْرِيَرْكهَا الأكبر صفرونيوس ألا يُسلِّم مفاتيح المدينة إلا للخليفة نفسه، لا لأحد من قواده، وقد جاء عمر من المدينة إلى القدس في رحلة تاريخية مُثيرة، وتَسلَّم مفاتيح المدينة، وعقد مع أهلها من النصارى معاهدةً أو اتفاقيةً معروفةً في التاريخ باسم "العَهْد العُمَري" أو "العهدة العمرية"، أمَّنَهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وشهِد على هذه الوثيقة عددٌ من قادة المسلمين، أمثال: خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان (تاريخ الطبري، طبعة دار المعارف بمصر، الجزء الثالث، ص 609).

وقد أعْلم الله نبيَّه محمدًا- صلى الله عليه وسلم- بأن هذه الأرض المُقدَّسة سيحتلها الأعداء، أو يُهدِّدونها بالغزو والاحتلال؛ ولهذا حرَّض أمته على الرباط فيها والجهاد؛ للدفاع عنها حتى لا تسقط في أيدي الأعداء، ولتحريرها إذا قُدِّر لها أن تَسقط في أيديهم، كما أخبر- عليه الصلاة والسلام- بالمعركة المُرتقَبة بين المسلمين واليهود، وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين على اليهود، وأن كل شيء سيكون في صفِّ المسلمين حتى الحجر والشجر، وأن كلاًّ منهما سينطق دالاًّ على أعدائهم، سواءٌ كان نطقًا بلسان الحال أم بلسان المقال (يشير إلى هذا الحديث المُتَّفق عليه عن ابن عمر وأبو هريرة).

وقد روى أبو أُمامة الباهلي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تَزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم من جابههم، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" (رواه عبد الله بن أحمد في المسند 5/269، وقال: وجدته بخطِّ أبي.. وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد "وجادة عن أبيه" ورجاله ثقات "7: 288").

القدس تُهوَّد جهارًا..!!

في الثاني من سبتمبر 1997م دُعيت من قِبَل (مَجمع البحوث الإسلامية بلندن) للمشاركة في مؤتمره العلمي الأول عن (القدس) وإلقاء كلمة فيه بهذه المناسبة، فحضرت وقلت في بداية كلمتي: في هذه السنة (1997م) تتزاحم ذكريات مهمَّة وبارزة تخصُّ قضيتَنا الأولى قضية القدس وفلسطين.. في هذه السنة تمرُّ ذكرى مرور قرن (100 سنة) على عقد المؤتمر الصهيوني الأول في (بازل) بسويسرا برئاسة (هرتزل) عام 1897م، وظهور المؤسَّسة الصهيونية العالمية، كما تمرُّ ذكرى (80) ثمانين عامًا على مُرور وعد بلفور المشئوم بإقامة وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين (نوفمبر 1917م)، وكذلك ذكرى نصف قرن على قَرار تَقسيم فلسطين (1947م) الذي كان تَمهيدًا لقيام إسرائيل (1948م)، وأيضًا ذكرى مُرور ثلاثين سنة على احتلال القُدس والضفَّة الغربية وغزَّة سنة (1967م) بعد حرب الأيام الستَّة المعروفة في 5 يونيو 1967م، وأخيرًا ذكرى مرور عشرين عامًا على زيارة السادات إلى إسرائيل (1977م)، التي مَثَّلَت بداية الخلل في وحدة الموقف العربي تجاه إسرائيل.

ونحن الآن نَجني ثمار هذه الأحداث المَريرة، وأشدُّ هذه الثمار مرارةً محاولة إسرائيل تهويد القدس العربية الإسلامية، وَفْقَ تخطيطٍ معلوم، ونَهْج مرسوم، وعلى مَرأًى ومسمع من أكثر من مائتين وخمسين مليونًا من العرب، ووراءهم أكثر من مليار من المسلمين، وعلى الرغم من قرارات الأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن الدولي، وبمُساندةٍ وتأييدٍ من أمريكا القوة الأولى والوحيدة، والمتألِّهة في العالم اليوم.

ولا تَزال إسرائيل تتابع (حَفريَّاتها) تحت المسجد الأقصى، وتُنشئ مدينةً سياحيةً تحته فيما زعموا، وقد سمعتُ في مؤتمر القدس المذكور من الأخ الشيخ رائد صلاح- رئيس بلدية أم الفحم في فلسطين المُحتلَّة ورئيس الحركة الإسلامية هناك- أنه أُتيح له الاطلاع على هذه الحفريات، ورأى المسجد الأقصى مُهَدَّدًا بالانهيار في وقت غير بعيد، وهذا يُؤكد ما قلتُه وأعلنتُه مرارًا من أن الكيان الصهيوني يَعْرِف متى ينهار المسجد، وهو محدِّدٌ له وقتًا مُعَيَّنًا، يُُوْقِع فيه ذلك ويُُعْلِنُه، وهو سَيَختار الوقت المناسب لهذا الفعل، بحيث يكون العرب والمسلمون مشغولين في همومٍ أخرى تُلْهيهم عن هذا الخَطب الجسيم، أو تجعل احتجاجهم عليه مُجرَّد صُراخ لا يردُّ حقًّا، ولا يُقاوم باطلاً!! ويكون العالم أيضًا مشغولاً بخَطب آخر، قد تكون إسرائيل أو الصهيونية العالمية هي صانعته ومدبرته..

وهكذا تتعرَّض القدس العربية الإسلامية- مدينة المُقدَّسات، وأرض النبوَّات، وبلد الإسراء والمعراج، ودار المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله والذي هو عند كلِّ مسلمٍ بمنزلة سواد العين، وسويداء القلب- تَتَعَرَّض هذه المدينة للتهويد المُبيَّت، والانتهاب المُخطَّط، والالتهام المُدبَّر، ويتعرَّض المسجد الإسلامي المُعظَّم للخَطَر المُؤكَّد، بما يقع تحته وحوله من حفريات مُستمرَّة، تَهدف في النهاية إلى إزالته، وإقامة هيكل اليهود المزعوم على أنقاضه.. الهدف واضحٌ وصريح، والخطَّة معلومة، والعمل مُعلن، اتَّفق عليه اليهود جميعًا، أيًّا كان انتماؤهم واتجاههم.. دينيين كانوا أم علمانيين.. من حِزْب (الليكود) الصريح المُتعجرف أم من حزب (العمل) المُناوِر المراوغ..!!

ومع هذا لا زلنا نركض ونسابق الريح؛ سَعْيًا إلى سلام بائس لا يُقيم لفلسطين دولةً، ولا يُعيد إليها مشرَّدًا، ولا يَرد إليها قُدسَها وعاصمتها، ومع هذا الغَبْن الفاحش والظلم المُبين تَركل إسرائيل ويركل بنيامين نتنياهو السلام المزعوم بقدميه، رضِي القتيل أولم يَرضَ القاتل!!

وهكذا كُلَّما تنازلنا عن حقٍّ مؤكد لنا أصرَّ الصهاينة على باطل مدَّعًى لها، وهي في كلِّ يوم تأخذ منا ما تُريد، ونحن لا نَأخذ نقيرًا ولا قطميرًا، إلا وُعودًا مزعومة، أشبه بما قال الشاعر:

كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً      وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلا الأَبَاطِيلُ

فلا يَغرنْك ما منَّتْ وما وَعَدَتْ     إنَّ الأمَانِيَّ وَالأَحْلامُ تَضْلِيلُ

بل إن الواقع أن إسرائيل في عهد الليكود أمست تَضِنُّ علينا حتى بالوعود وإن كانت سرابًا، فهي تتبجَّح بالرفض المُطلق، ولا تخاف ولا تَستحي، وقد قال رسول الإسلام: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (متَّفق عليه).. إن إسرائيل تستكبر وتبغي في الأرض بغير الحقِّ؛ لأنها لم تجد من يَردُّها ويُوقفها عند حدها، فهي تُريد سلامًا من منظورها هي، ووفق مصلحتها، وتَبَعًا لإستراتيجيتها التوسُّعية وأطماعها الإقليمية، المتمثِّلة في إسرائيل الكُبرى.. من الفُرات إلى النيل، ومن الأرز إلى النخيل!! ولكنها قد تُخفي ذلك أو تَسكت عنه في وقت ما، تبعًا لسياسة المراحل التي تُجيدها إسرائيل من قديم.

ولقد ساعدت الظروف العالميَّة والإقليمية والمحلية القائمة اليوم إسرائيل على هذا التجبُّر والطغيان الذي نَشهده، وتتمثَّل تلك الظروف في الاستسلام الفلسطيني والعجز العربي والوهن الإسلامي والغياب العالمي والتفرُّد الأمريكي والتحيُّز الأمريكي أيضًا، ولكن هل تَضمن إسرائيل أن تبقَى هذه الظروف المساعدة لها باقيةً إلى الأبد؟! وهل أخذت صكًّا على القَدَرِ الأعلى أن تبقى الرياح في الاتجاه الذي تهوى؟!

نحن بقراءة سنن الله في الكون، وقراءة التاريخ من قبل، واستقراء الواقع في عالمنا نؤمن بأن الدنيا تتطوَّر، وأن العالم من حولنا يتغيَّر، بل يتغيَّر بسرعة غير محسوبة ولا مُتوقَّعة، كما رأينا في انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي ظُهور الاتحاد الأوروبي، وفي ظُهور قوى اقتصادية جديدة في العالم، وهو ما عبَّر عنه الناس من قديم، فقالوا: دوام الحال من المحال، وما عبَّر عنه القرآن في صورة سنَّة كَونيَّة عامة، فقال: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140).. قال ذلك في أعقاب غزوة أُحُد التي انكسر فيها المسلمون في عصر النبوة، وقدَّموا فيها سبعين من أغلى شهدائهم، بعد انتصار مُبِين قبلها في غزوة بدر، التي سَمَّى القرآن يَومها: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ (الأنفال: 41).

الاستسلام الفلسطيني

إن الاستسلام الفلسطيني الذي دفع إليه تَسرُّب الوهَن إلى بعض الأنفُس، واليأس إلى بعض القلوب والشعور بالمرارة من تَخاذُل الكثيرين من العرب، وارتماء بعضهم في أحضان الأمريكان، وسُقوط السوفيت، والإحساس بالرعب من الوحش الأمريكي، وتحيزه لربيبته إسرائيل، واستطالة طريق الجهاد، وكثرة تكاليفه وضحاياه.. كل أولئك سارع بدفع عدد من القادة الفلسطينيين إلى قبول "السلام الأعرج" الذي عرضته إسرائيل تحت عنوان (الأرض مقابل السلام).

يَعنون أن تتخلَّى إسرائيل عن الأرض الفلسطينيَّة والسورية واللبنانية التي احتلَّتها عام 1967م في مقابل سلامها؛ بحيث لا يُناوشها أحد ولا يُنازعها.

باختصار: هذا القول يعني أن أرض العرب في مقابل سلام إسرائيل، أي يَرُدُّونَ إلينا أرضنا المحتلَّة لينعموا بالسلام.. معنى هذا: أن الأرض التي أخذوها بقوَّة السلاح وبالدم والعنف أمست مِلكًا لهم، وأمسى لهم الحقُّ عليها، وهم يتنازلون عنها لِيَفُوزُوا بالسلام!! وقبِل العرب المفاوضات على هذا الأساس الأعوج، وأعطوا إسرائيل السلام، ولكنها لم تُعطِهم شيئًا، باعت لهم (الترام)!! كما تحكي الحكايات عن القاهري الماكر والصعيدي الساذج.

ما معنى "سلام" يَترُك المشاكل الكبرى الأساسية كلها معلَّقة.. مُشكلة القدس، مُشكلة الاستيطان، مُشكلة اللاجئين، مُشكلة الحدود.. هذه المشكلات الخطيرة معلَّقة مؤجَّلة، لا تُبحث إلا في نهاية المفاوضات، ولم يَسأل أحد، وإذا لم نتَّفق عليها في النهاية فماذا يكون الموقف؟! والحقيقة أن هذه المشاكل كانت معلَّقة ومؤجَّلة عند العرب، ولم تكن مؤجَّلة ولا معلَّقة عند الصهاينة، فقد أعلن إسحاق رابين عشيَّة توقيع الاتفاق في (أُوسلو) قائلاً ومصرِّحًا: جئتكم من أورشليم (القدس) العاصمة التاريخية والأبدية الموحَّدة لشعب إسرائيل!!

وكذلك لم يُؤجل موضوع الاحتلال، بل ظلَّ مُستمرًا في أكثر من مَكان في فلسطين، إلى أن فجَّرته المُحاولة الصريحة الجريئة بإنشاء مغتصبة (هارحوما) في جبل أبو غنيم، وكذلك في رأس العامود في القدس الشرقية، ولا يَزال الاحتلال يتوسَّع ويَنمو، في حين لا يُسمح للفلسطينيين أهل البلد وأصحاب الدار، بأي نُمو أو توسُّع، وكم رأينا بأعيننا البيوت تُهدم على مَرْأًى ومَسمع؛ لأن إسرائيل لم تَسمح بها ولن تَسمح يومًا.

إن الفلسطينيين اليوم أدركوا أن إسرائيل تَخدعهم وتلعب بهم، وأن انسحابها الجزئي المحدود جدًّا لم يكن إلا خدعةً كبيرةً، وأنها تستطيع أن تَعود إلى احتلال المواقع التي أخلتها في ساعات قلائل، وأن زمام الأمور كلها بيديها، وأنه لا حوْل لهم ولا طوْل، وأن السلطة التي منحتها إسرائيل لهم سلطةٌ وهميَّة، هدف إسرائيل منها: أن تَضربَ الفلسطينيين بعضَهم بعض، وأن تُسلِّط بَعضَهم على بعض، وأن يكون بأسَهم بينهم شديدًا، لتقف هي متفرِّجةً على صراع الأخ مع أخيه، وأن بندقية الفلسطيني لم تَعُدْ مُوَجَّهةً إلى صَدْرِ غاصب أرضهم بل إلى فلسطيني مثله، وهذا مُراد إسرائيل، ولمَّا لم يتحقَّق لإسرائيل كلَّ ما تُريد طلبت بصراحة من السلطة تدمير حماس، وتَحطيم كل قوة لها، وإعانة إسرائيل عليها، وهذا شرط ضروريٌّ اليوم للعودة للجلوس على مائدة السلام المزعوم.

إن إسرائيل ماضيةٌ في خُطتها وإصرارها على تَهويد القدس، وهي خُطةٌ ليست بنت اليوم ولا وليدةَ الأمس، وقد حدَّدت هدفها ورسمت سياستها، ومارست تنفيذها بمحاصرتها بالمغتصبات، والعمل الدائب على تفريغها من أهلها العرب مُسلمين ومَسيحيين ووضع العوائق والعقبات في سبيل نموهم وامتدادهم عمرانيًّا وبشريًّا، والوقائع كلها شاهدةٌ قاطعةٌ، والعرب لا يَملكون إلا الشجْب والاحتجاج والاستنكار، وهذه كلها لا تُجدي فتيلاً، ولا تُحيي قتيلاً، ولا تشفي عليلاً.. لقد احتجَّ العرب على مستوطنة أبو غُنيم، واحتجُّوا على احتلال بيت رأس العامود، ولكنَّ احتجاجاتهم ذهبت أدراج الرياح.. لم يَبْقَ من شيء تَخافه إسرائيل إلا الشباب الذين حَمَلوا رؤوسَهم على أكفِّهم، بائعين أرواحهم لله، لا يُبالون أوَقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، مِن الذين أقلقوا إسرائيل بعمليَّاتهم الاستشهاديَّة، وقذفوا الرُعب في قلوب أبنائها، وأَطاروا النوم من أجفانهم، ولا يَفِلُّ الحديد إلا الحديد.

لهذا قامت إسرائيل- على أعلى مستوًى فيها- بالانتقام من هؤلاء الأبطال، فقتلت الدكتور الشقاقي، والمهندس يحيى عيَّاش، وشرعت أخيرًا في قتل خالد مَشعل بسلاح كيماويٍّ متطوِّر، وفي بلد معاهد لهم هو الأردن؛ ليعلم الجميع أن هؤلاء قوم لا عهدَ لهم ولا ذمَّة، كما قال تعالى في أسلافهم: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمْ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ (الأنفال: 56).

وهم من قديم يَقتُلون كل مَن يقف في طريقهم أو ينتقدهم، أو يكشف أحابيلهم، من مدنيين وسياسيين ومفكِّرين، فقد قتلوا اللورد موين، وقتلوا الكونت برنادوت، وقتلوا المفكِّر الإسلامي الدكتور إسماعيل الفاروقي وزوجته أشنع قتلة، هذا ما تقوله الوقائع، ولا يزالون يُهدِّدون ويَتوعَّدون كلَّ مَن يَقول كلمة لا تُعجبهم، حتى الرسائل الأكاديمية أو البحوث العلمية التي تتحدث عن مذابح النازيِّة معهم وتُحاول أن تُبيِّن حجمها الحقيقي لا يُسمح لها أن تَبرُز وترى النور، حتى إن كاتبيها يَتعرَّضون للمُساءَلة والمحاكمة بل المضايقة والإيذاء والتهديد، وآخرهم المفكِّر الفرنسي المَعروف روجيه جارودي.

إن الذين ظلُّوا يَحملون روح الشعب الفلسطيني المُجاهد، وعِناد مقاومته، واستعداده للتضحية، إنما هم تلك الفئة المؤمنة التي وَهَبَتْ حياتها وكل ما تملك من نفس ونفيس، لتحرير الأرض المقدَّسة ومسجدها الأقصى.. إنما هم أبناء حركة المقاومة الإسلامية حماس وإخوانهم وأعوانهم في الجهاد المقدَّس، ومَن يَشدُّ من أزرهم من أبناء الشعب.

إنهم الذين باعوا أرواحهم لله ليشتروا الجنة، ولقد ابتُلوا وأُوذُوا وسُجِنُوا وعُذِّبوا في سبيل الله، فصبروا وصابروا ورابطوا.. ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحَبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِريِنَ﴾ (آل عمران: 146- 147).

وظني أن الاستسلام الذي جُرَّ إليه الفلسطينيون لن يستمرَّ، فقد طفح الكيلُ، وبلغ السيلُ الزُّبَى، وأوشك الصبر أن يَنفد، وحينئذ لا يكون أمام هؤلاء إلا عَودة الانتفاضة الشاملة أشد وأقوى مما كانت، ويفرِض الواقعُ الجديد نفسهَ، وتنضمُّ السلطة إلى الشعب، ويَقف الجميع في وجه العدو صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، وصَدَقَ الشاعر:

إذا لم يكن إلا الأسنَّة مَرْكَبٌ    فما حيلَةُ المُضطَرِّ إلا رَكُوبُها

-------------------
* (لخصت هذه المادة مع بعض التصرف من كتاب فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي- أمد الله في عمره- بعنوان "القدس قضية كل مسلم" ونوصي بالرجوع إليه).