• الحالة منذ عام 1914م حتى 1928م كانت تعجل بزوال المجتمع لولا نشأة "الإخوان".
• تركزت الثروة في أيدي 0.5% من أفراد الشعب مما أدى إلى الفوارق الاجتماعية.
• مولد الإمام "حسن البنا" وكيف استطاع أن يغير مجرى الأحداث؟
كان للظروف السياسية وما تبعها من صراع فكري بين الذين فُتنوا بالحضارة الغربية والمحافظين من عامة الشعب المصري أثر واضح على الحياة الاجتماعية، فقد حدثت تغييرات جمة في المجتمع المصري بدخول بعض العادات والتقاليد الغربية التي لم يقبلها المصريون، مثل انتشار حانات الخمر، ودور الملاهي الليلية، ودور البغاء، وأوراق اليانصيب، كما زاد عدد دور السينما والمسارح الليلية، وتوسعت المجلات في نقل أخبار الممثلين والممثلات والمغنيين والراقصات، ودخلت الفتاة العارية مدرسة الفنون الجميلة فلقيَت ترحيبًا أكثر من زميلتها المحجَّبة، وكثرت ترجمة القصص الخليعة والمذاهب الأوروبية الهدامة والمعادية للدين، وكان لهذا كله أثر كبير على بعض الشباب، وصادف هوىً في نفوسهم وأغراهم بالتمرد على كل ما هو قديم، والاستخفاف بالعادات الموروثة، فأقبل هؤلاء على تعلم الرَّقص مع الفتيات؛ كي يجاروا في عاداتهم أبناء الجاليات الأجنبية، بل تنافس الأغنياء على استجلاب أدوات الترف من أوروبا، وإرسال أبنائهم للتعلُّم في دول الغرب؛ مباهاةً بالقدرة على الإنفاق.
وقد صور "المنفلوطي" في كتابه "النظرات" هذه الحياة بقوله: "أصبح السيد في بيته يستحي الحياء كله من خادمة غرفته الأوروبية أن تطَّلع منه على جهله ببعض عاداتها وعادات قومها حتى في لبس الرداء وخلع الحذاء أكثر مما يستحي من الله"!
وكانت مجلة (الهلال) وجريدة (السياسة) على رأس الصحف التي تروِّج للتيار الجديد، فقد دعت (الهلال) إلى مذهب العُري وعددت فوائده ونشأته واختلاط الجنسين في التعليم! وكتبت السياسة عن الخمر والرقص.
أما حركة تحرير المرأة ونزولها إلى مجالات العمل ومطالبتها بدخول الجامعة فقد أثارت حفيظة أتباع التيار المحافظ.
المظاهر السابقة لم تصب طبقة الأغنياء فقط بل أصاب جزء منها حياة العمال والحرفيين في المدن، إلا أن هذه التيارات لم تستطع جذب أغلب العمال إليها، وحتى الذين جذبتهم لم تستطع- إلى حد كبير- أن تنجح في نزع القيم الدينية والعادات الموروثة عندهم، وزاد من تدهور حال هذه الفئة خلوّ بنود أحزابها السياسية من مطالب إصلاحية الأمر الذي جعل مؤيديها يهجرونها إلى تجمعات جديدة يمينية كانت أو يسارية.
الفلاحون (نهب) لكبار المُلاَّك:
كان الفلاح أقل فئات المجتمع تأثرًا بالتيار الجديد، وكانت تقع كثير من هذه الأفكار والعادات عند أهل الريف موقع الخيال، وكان الفلاح نفسه نهبًا لكبار الملاك الزراعيين، حيث كانت الثروة الزراعية مركزة في أيدي عدد قليل من الأفراد بلغت نسبتهم 0.5%، وترتب على ذلك وجود فوارق اجتماعية واضحة بين من يملكون وسائل الإنتاج ومن لا يملكون غير قوة عملهم يبيعونها لأصحاب الثروات مقابل أجور زهيدة.
الحالة القانونية والتشريعية:
في تلك الفترة بدأ التوسع في الأخذ عن القوانين الفرنسية التي جيء بها لتخدم المصالح الأجنبية عن طريق المحاكم المختلطة، كما تمَّ إلغاء المحاكم الشرعية واقتصر دورها على أمور الأحوال الشخصية.
أما مجموعة القوانين التي أريد بها حماية مجموع الفلاحين من سطوة كبار الملاك، فكان كبار الملاك كثيرًا ما يتخطَّونها بحكم سيطرتهم على الأجهزة التشريعية والتنفيذية في الدولة.
تلك كانت أهم الظروف القائمة في المجتمع المصري التي كانت تُنذر بخطر محدق على الأمة جميعًا، إن لم يكن هناك عمل سريع بعيدًا عن الخطب الرنانة والأحاديث الطنانة والعمل من أجل المصالح الشخصية، وفي هذه الظروف وُلدت جماعة (الإخوان المسلمين) ومن قبلها وُلد مؤسسها الإمام "حسن البنا" الذي أطلق عليه "مجدد الإسلام في القرن العشرين"، والذي عاش ومات مجاهدًا في سبيل دعوته.
مولد "حسن البنا":
مَن ذاك الرجل الذي استطاع أن يغير مجرى الأحداث، ويحفر لنفسه اسمًا من نور بين القادة والزعماء والمصلحين والمجددين والدعاة؟!
لقد تضاربت الآراء فيه إلى حد بعيد...
فمِن قائل: هو صوفي صرف مائل عن طريق السلف، ومن قائل: بل سياسي مخضرم ذو مآرب لا تمت للإسلام بصلة، ومن قائل: بل متسلّط قاهر محب للسلطة، شغوف بالإمارة...!!
فهل كانت تُحركه غريزة عقائدية فطرية لا تخيب ولا تضل؟، أم هو إلهام الصوفي الذي انكشف له جانب من الغيب من غشاء شفيف؟ أم هي الموافقات القدرية الماضية حتى تبلغ ما تريد؟ أهو سياسي ثاقب البصر إلى حد المعجزة؟ أم هو محب والِهٌ قد رُزق الإلهام والرشد في كل ما يقول ويفعل وبقيت الكلمة الفاصلة للتاريخ؟
الواقع أن "البنا" لم يكن سوى جمرة تنبض في عناد بين الرماد العاجز الميت، فلقد كان روحًا باهرة تومِض بالإسلام بين جنبات هذه الأمة المهيضة المعذبة.
فمن هو "حسن البنا" الذي أحدث كل هذا الجدل؟
هناك في شمال مصر على أحد فرعي النيل بالمحمودية؛ حيث سندسية الحقول وانفراج الأفق، واتساع البسيطة وُلد طفل مصري لوالد عُرف بين أبناء مجتمعه بالتقوى والجدية والضبط والصدق والأمانة وحسن الصلة بالناس.
ووالده هو "أحمد عبدالرحمن البنا" من العلماء العاملين، درس الأدب على يد الشيخ "محمد عبده"، واشتغل بعلوم السنة، وله مصنفات في الحديث الشريف، أهمها: "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد" وكان مع هذا مأذون القرية وإمامها وخطيب مسجدها، ويحترف تجليد الكتب وإصلاح الساعات؛ لذا لقب بـ"الساعاتي".
وكان مولد "حسن أحمد عبدالرحمن البنا" المعروف بـ"الإمام الشهيد حسن البنا" في 25 شعبان 1324هـ الموافق 14 أكتوبر من عام 1906م بمدينة المحمودية بمحافظة البحيرة شمال غرب القاهرة، وكان الابن الأكبر، وله ثمانية أخوة، وقد وجهه والده إلى الكُتَّاب منذ نعومة أظافره ليحفظ القرآن الكريم؛ تمهيدًا لالتحاقه بالأزهر، الذي كان عند المسلمين أمل الحفاظ على الإسلام ومنارة الهدي الصافي وشرف الدنيا ورضوان الله يوم القيامة في ذلك الوقت.
وفي الثامنة من عمره التحق الطفل بمدرسة (الإرشاد) الدينية، وكانت روحه قد تعلقت بوجدانيات التحرك للعمل الإسلامي، وقد أثنى في مذكراته على معلمه الشيخ "محمد زهران"، إذ كان للرجل أسلوبه الخاص في التدريس والتربية؛ مما جعل الطفل الرضي يتعلق بأستاذه هذا، فقد أدرك بوجدانه أن المشاركة العاطفية والتجاوب الروحي بين التلميذ وأستاذه أمثل السبل لبناء الشخصية السويَّة.
وعندما ترك هذا الشيخ المدرسة وتعهدها غيره ممن لا يملك هذا الإشراق الروحي فكر الطفل في الانتقال إلى المدرسة الإعدادية التي كانت آنذاك تدرس علوم اللغة والدين، بالإضافة إلى القوانين العقارية والمالية ونبذة عن فِلاحة البساتين.. وكان ذلك في الثانية عشر من عمره، وكان الطفل قد أتم حفظ نصف القرآن الكريم فعارض والده بحجة أنه لابد أن يتم حفظ القرآن كله فوعد والده بحفظه، وكان الطفل صادقًا، وهكذا دخل "حسن البنا" المدرسة الإعدادية، وقسم وقته إلى:
- الدرس نهارًا بالمدرسة الإعدادية.
- تعلم صناعة الساعات بعد الانتهاء من الدراسة.
- من بعد صلاة العشاء يستذكر دروسه حتى النوم.
- يحفظ حصة القرآن المقررة يوميًا بعد صلاة الصبح.
وهكذا كان الطفل منظمًا في شئونه، حريصًا على وقته منذ بداية نشأته.