بقلم أ.د. إسماعيل علي

أستاذ الدعوة الإسلامية والأديان جامعة الأزهر

 

قصيرةٌ هذه الحياة الدنيا، وأقصرُ منها مُكث الإنسان فيها.

وهناك خلق كثير منذ آدم عليه السلام حتى يوم الناس هذا لا يحصون عددا، وُلِدوا وعاشوا ما كَتب الله لهم أن يعيشوا، ثم ماتوا، وكأنهم لم يُوجَدوا في الحياة، ولم يلبثوا فيها ساعة من ليل أو نهار.

ومن الناس مَن يَقْدُم إلى الدنيا، ثم يرحل عنها وقد باركه الله وبارك في عمره، ووفقه في سعيه، وهداه إلى الطيب من القول والصالح من العمل، فإذا به يترك بعد وفاته أثرا طيبا، وخيرا ممتدا وباقيا، ينفع الله به الناسَ من بعده، كما نفعهم به قبل موته، فتبقى ذكراه خالدة في صحائف التاريخ وسجل الزمان، وتظل سيرته حية بين الناس، وآثاره معالمَ هداية، وقدوةً حسنة للأجيال، وأحسب من هذا الصنف المبارك شيخي وأستاذي العالمَ العاملَ الداعيةَ الشيخ ماهر عقل ـ يرحمه الله ـ، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا.

في شهر أبريل عام 2008 رحل عن عالَمنا الشيخ الجليل، حيث وافته المنية وهو قائم في الميدان، يصول ويجول؛ عاملًا لدينه، خادمًا لدعوة ربِّه، مجاهدًا بكل ما يستطيع في نصرة الحق، بهمة عالية، وعزيمة قوية، وثباتٍ لا يلين، ونشاطٍ دءوب، وحركة هادرةٍ فاعلة راشدة، لا تعرف السآمة ولا الكلل.

لقد تذكرت حياة شيخي وجهاده ونشاطه وعزيمته ـ وأنا الذي عايشته عن قرب زمنًا يقارب العشرين عاما ـ فقلت حين وفاته ـ والأسى يعتصر قلبي ـ : لقد آن لهذا الجسد أن يستريح!!

إي والله؛ فلقد كنا نحن المحيطين به القريبين منه لنعجب من ذلك النشاط الذي ينوء به العصبة أولو القوة، وتلك الطاقة المتوقدة، والحركة الدائبة، ولا يكون المرء مبالغًا إذا قال بأن جهود الشيخ في الدعوة إلى الله والعمل للإسلام كانت تعدل جهود أعدادٍ من الدعاة والعاملين، وهو الذي تُوفِّي عن سبعين عاما، ولم يَسلم بدنه من المرض المُضْنِي، والمعوِّق للحركة، لكنها النفوس العظيمة التي اصطفاها الله لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، المستمِدةِ للعون والمدد من الله القويّ المعين.  

لقد كان الشيخ ذا جهاد متواصل في سبيل الإصلاح والتمكين لدين الله عز وجل، والاشتغال بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فما كان يترك مناسبة إلا واستغلها في الدعوة إلى الله، وكان يصدع بكلمة الحق في كافة المواطن والأحوال، وبخاصة أمام الظالمين والطغاة وأعوانهم، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولم يكن يترك الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكرِ في سائر الأحوال، وكان له حضور دائم، ومشاركة فاعلة في الدعوة الجماهيرية والفردية في المحافل العديدة، والمجالس الخاصة والعامة، تناول فيها كافة الموضوعات الدعوية والجوانبِ الإصلاحية، من خلال الدروس والخطب والندوات والمؤتمرات، فكانت له دروس علمية منهجية في التفسير والعقيدة والسيرة والأخلاق ... وغيرها، بالإضافة إلى الخطب والمحاضرات المتفرقة بحسب ما يقتضيه المقام، وتدعو الحاجة إليه.

ولم تقتصر جهود الشيخ في مجال الدعوة والإصلاح على مصر فقط؛ بل امتدت إلى خارجها، في إطار زيارات مطوَّلة ومختصرة لدول مثل أمريكا وبولندا وغيرها.

ولقد تحققت في الشيخ ـ يرحمه الله ـ مقوماتُ الداعية الناجح، سواء منها ما كان منها متعلقًا بالجانب العلميّ، أو الأخلاقيّ، أو المؤهِّلات والمهارات المعينة على تبليغ الدعوة والقيام بالإصلاح على خير وجه، بالإضافة إلى العُدّة الإيمانية والرُّوحية القوية التي منحه اللهُ تعالى إياها.

أما الجانب العلميّ؛ فقد كان الشيخ ـ يرحمه الله ـ يتمتع بالعلم الوفير، ولم يكن محصورًا في فرع معين أو تخصص محدود، بل كان موسوعيَّ المعرفة، وكان ذا نهم دائم في الاستزادة من العلم خاصة العلمَ الشرعيّ، كالتفسير والسنة والسيرة والتاريخ والفقه والعقيدة والمذاهب وغيرها، وكان ذا نفَس طويل في القراءة، وكانت لديه مكتبة عظيمة عامرة بالتخصصات المتنوعة، وأذكر أنه قال لي ذات مرة ـ في حوالي سنة 1990م ـ: ألا يمكن أن تقرأ هذا الكتابَ في ليلة أو ليلتين؟ وكان يشير ليلتها إلى كتاب: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلاميّ" للدكتور مصطفى السباعي ـ يرحمه الله ـ، ولقد صفا للشيخ رحمه الله علم كثير، وثروة معرفية غزيرة، الأمر الذي ساعده في دعوته وعمله.

وجدير بالذكر أنه اضطلع بمهمة الإفتاء لأكثر من عشر سنين، حينما كان يعمل "واعظا أول" بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف بالإمارات العربية المتحدة، وقد شهد له بهذا الرسوخ العلميّ كلُّ مَن خالطه وجالسه مِن أهل العلم.

كانت لدينا مناسبة في كلية أصول الدين والدعوة بالمنصورة ـ وهي مكان عمليّ ـ وقد دُعِي إليها الشيخ ـ يرحمه الله ـ، (كان ذلك في عام 1999م)، وبعد الطعام كان هناك مجلس ضم أساتذة الكلية، تطرقنا فيه لقضايا علمية عديدة، وقد برز علمه الغزير من خلال المناقشات العلمية يومها، وكان محلَّ تقدير جميع الأساتذة، وكان إذا لقيني عدد من الأساتذة بعدها ذكروا الشيخَ وأثنوا على علمه، وأذكر أن عميد الكلية ـ في ذلك الحين ـ الأستاذ الدكتور "إبراهيم الديب" أستاذ التفسير وعلوم القرآن ـ يحفظه  الله ـ، قال لي: إن أمثال الشيخ من العلماء الفقهاء في هذا الزمان قليلون، وكان الأستاذ الدكتور "الدسوقي محمد الدسوقي" أستاذ العقيدة والفلسفة ـ يرحمه الله ـ كلما رآني سألني عن الشيخ وحمّلني إليه السلام، مثنيًا عليه، وناعتا له بأنه "رجلٌ حجة" ـ وكان ينطق كلمة "حجة" بالإمالة على عادة بعض أهل محافظة الدقهلية ـ.

وبهذه المناسبة فإني أنصح نفسي وإخواني من أهل العلم والدعوة بأن يحرصوا على طلب العلم، والاستمرار في تحصيله، والاستزادة منه دون انقطاع، حتى وإن كان يسيرًا في بعض الأحوال والظروف، فإنه لا شك سيكون زيادةً في الرصيد العلميّ والمخزون المعرفيّ، ولا يستصغر أحدنا أو يقلل من قدْر أية معلومة مهما كانت ضئيلة؛ بل يواصل، ولسوف تَعظُم ـ بإذن الله ـ ثروتُه العلمية وتزداد مع الأيام، وما أحكمَ ما قاله العلامة ابْنُ النّحاس الحلَبيُّ النّحْويُّ، المتوفَّى عام 698هـ ـ يرحمه الله ـ:

اليــومَ شيئٌ وغــدًا مثلُه ** مِن نُخَب العلم التي تُلتقَـط

يُحصِّل المرء بها حكمة ** وإنما السيْل اجتمـاع النقط

وأمّا أخلاق الشيخ الحسنة؛ فكانت بادية في سائر معاملاته، ومع جميع الناس؛ البعيد منهم والقريب، المسلم وغير المسلم، فكان عفّ اللسان، بشوش الوجه، لَيّن الكلام، وَصولًا لرحمه، عطوفًا على الفقراء والمحتاجين، بيْتُه قبلة لكل صاحب حاجة، خاصة بعد أن انتُخِب وصار عضوًا بمجلس الشعب عن دائرة كفر صقر وأولاد صقر بمحافظة الشرقية (في دورة عام 2005م)، وكان يُلقِي السلام على من عرف ومن لم يعرف، كما كان جريئا في الحق لا يخشى في الله تعالى لومة لائم، وكان اللهُ عز وجل قد كساه لِباس العِزّةِ والوقار، وكان ـ يرحمه الله ـ ذا حظ عظيم من الصبر في جميع أحواله؛ صبر على النعمة فلم يغترّ بما وسّع الله عليه في الرزق، ولم يطْغ أو يتبطر، بل كان مثالا للشاكر المتواضع، وصبر على الابتلاء، حيث ابتُلِي بالاعتقال والسجن ظلما، لا لشيء إلا أنه يدعو إلى الله، وينادي بإصلاح الدنيا بالدين، من خلال تطبيق شريعة الله، وهذه ضريبة يدفعها الدعاة إلى الله والمصلحون في كل زمان ومكان، وكان من أبرز أخلاقه ـ يرحمه الله ـ الكرم والسخاء، كما كان عفيفًا عزيزَ النفس أبيًّا، لا يذل نفسه لغير خالقه، ولا يخشى إلا مولاه، فهو متواضع في غير ذلة، عزيزٌ في غير تكبر، وكان يتواصل مع الناس يشاركهم في أفراحهم وأحزانهم بدرجة كبيرة جدا، وكان حسن المظهر، طيب الرائحة على الدوام، وكان متفائلا في كل الأحوال، مستبشرًا بأن المستقبل لهذا الدين ... وهذه كلها أخلاق لازمة لكل عالم داعية، وبالجملة فقد كان الشيخ ـ يرحمه الله ـ مثالا للعالم الداعية الذي يعمل بعلمه ويطبق ما يدعو إليه، لا سيما في مجال الأخلاق، ولذلك كان لدعوته القبول، ولكلامه التقدير، ولشخصه الاحترام والتبجيل، حتى ممن يختلفون معه.

لكن ألأمر الذي كان واضحًا وملموسًا هو إقبال الناس على الشيخ وتفاعلهم مع ما يدعو إليه، وتأثرهم به، وهذا ـ فيما يبدو ـ لأن الشيخ كان صاحبَ رسالة، يحمل همها ويعمل بإخلاص على نشرها، يبتغي بذلك الأجر من الله، وهذا هو الفرق بين صاحب الرسالة المخلص، وبين من يعمل بروح الموظف الذي لا يهمه إلا إرضاء رؤسائه، وأداء وظيفته فقط، دون أن يكون مهمومًا بدعوته، مستغرقا في التفكير فيها آناء الليل وأطراف النهار، فهذا الذي لا يَعُدّ الدعوة رسالةً هيهات أن يكون له من التأثير عُشر ما للمخلص المهموم بدعوته، وهذا هو ما أفصح عنه الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ، عندما سأله ولدُه قائلا: لماذا يا أبتِ إذا وعظْتَ بكى الناس، وإذا وعظ غيرك لم يبْكِ أحد؟ فقال: ليست النائحة (المستأجَرة) كالثكلى، وهكذا كان شيخنا ـ يرحمه الله ـ يحمل بين جوانحه همَّ الإسلام والدعوة إليه، قدوتُه في ذلك رسول الله e، الذي خاطبه ربه بقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، والبخْع هو قتل النفس همًّا وغمًّا، ولا يخفى أن هذا الصنف من الدعاة المهمومين بدعوتهم هو ما تحتاجه الدعوة اليوم أكثرَ مِن أيّ وقت مضى.

وأما قدراتُ الشيخ ومهاراتُه في الدعوة والتبليغ؛ فيمكننا أن نقول ـ دون أدنى مبالغة ـ : إنه كان عملاقا في هذا الجانب؛ فقد حباه الله تعالى بأسلوب جذاب، وفصاحة عالية، وبلاغة راقية، وأداء مؤثر، وقدرة على الإقناع والاستمالة، وفقهٍ دعويٍّ متين، وإحاطة واسعة وبصيرة نافذة بمنهج الدعوة إلى الله تعالى، مع حكمة عظيمة تعصم ـ بتوفيق الله ـ من الانحراف عن النهج القويم والصراط السويّ في الدعوة والإصلاح، وكان خبيرًا بالنفوس وطبائعها ومَداخلها، وأحوالِ المدعوّين وواقعهم، فكان الشيخ يخاطب المتعلمين بما يقنعهم ويستميلهم، ويخاطب العوام بما يُفْهِمُهم ويؤثّر فيهم ويجذبهم، ويخاطب غير المسلمين بالخطاب الذي يناسبهم، هذا فضلا عن مراعاة مقتضى الحال، وكلها أمور لا يراعيها إلا الموفقون ممن رزقهم الله علما وفهما وسدادًا، ونحسب أن الشيخ منهم؛ فقد أثمرت جهوده بفضل الله أطيب الثمار.

ثم إن الشيخ ـ يرحمه الله ـ كان موصولا بربه في ليله ونهاره، فكان يكثر من ذكر الله لا يفتر، مرتبطًا بكتاب ربه، وكان صوّاما قوّامًا، حتى إن الله أكرمه فقبضه إليه وهو صائم، فكانت بشرى دالةً على حسن خاتمته، حيث روى حُذيْفةُ رضِيَ اللهُ عنه، عن النّبيّ e قال: «مَنْ خُتِمَ لَهُ بِصِيَامِ يَوْمٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ » (أخرجه البزار وأحمد ـ وصححه الأرنؤوط ـ، كما كان زاهدا، لا يعير الدنيا ومظاهرها أدنى اهتمام، وقد تجلى هذا في تزويجه لبناته؛ حيث كان جُلّ اهتمامه محصورًا في أن يختار لكل واحدة منهنّ مَن يتوسم فيه الصلاح، ويظن فيه التقوى، وقد كنت أحدَ الذين أحسن بهم الشيخ الظن ـ وإني دون ذلك وأسأل الله أن يغفر لي ويجعلني عند حسن ظن الناس بي ـ وزوّجني كُبرى بناته، ورفق بي، ويسّر لي كثيرًا من الصعاب، ولم أكن ـ عند الزواج ـ أملك من متاع الدنيا الكثير، شأني شأن ملايين الشباب ـ في عالمنا العربيّ ـ الذين يتخرجون من التعليم ويحفرون في الصخر بأظافرهم، ليشقوا طريقهم أملًا في الوصول إلى حياة رغيدة، معتمدين على الله، آخذين بالأسباب، مستبشرين بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فجزاه الله عني خيرا.

لقد كان من موافقات القدَر أنّ أول خطبة حضرْتُها لشيخي وأستاذي في قريتنا ـ وكنت يومها صبيا في العاشرة ـ كانت شرحًا لحديث المصطفى e الذي أخرجه الشيخان من رواية أبي هريرة رضِيَ اللهُ عنه: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ...» ومنهم: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»، ومُنذ ذاك الحينِ عقَدَ الحُبُّ بين قلبي وقلبه عَقْدًا مُوَثّقا.

وكان مما وقَر في نفسي ـ منذ كنت طالبًا ـ؛ كلمةٌ حكيمة قالها لي الشيخ ـ يرحمه الله ـ، وهي:

"يا بُنيّ: إن الإناء الفارغ له رنين، فإذا امتلأ خَفَت صوتُه وقلّ رنينُه" !!

فما غفلتُ عنها أبدا.

أما بعد: فإذا كنتُ أقف هذه الوقفة في ذكرى رحيل شيخي وأستاذي الكبير فضيلة الشيخ ماهر عقل ـ يرحمه الله ـ؛ فقد قصدتُ أن أُضَمِّنها بعضا من ملامح سيرته، تذكيرًا بقدر أحد علماء الأمة الإسلامية ودعاتها المجاهدين، الذين كانوا ولا يزالون ملء السمع والبصر، راجيًا أن تكون معالم رشاد، ومنارات هدى على طريق العلم والدعوة للأجيال، وأن تكون لمسة وفاء لأستاذٍ من أهل الفضل والبِر، في زمن قَلّ فيه الوفاء للأساتذة ـ كما قال الأستاذ الدكتور "محمد رجب البيوميّ" ـ يرحمه الله ـ: "الوفاء للأساتذة قد قلّ في هذه الأيام؛ إذْ رأينا في الدوائر العلمية مَن يحاول أن ينكر آثار أساتذتِه، وأنْ يغتصبها لنفسه، والإشارةُ أولى من التصريح".

وإذا كان شيخنا الفضيل قد فارق دنيانا إلى جوار ربٍّ كريم فإنه سوف يظل معنا دائما بسيرته الزاكية، وأعماله الطيبة، وآثاره الصالحة، وتوجيهاته النافعة، التي أثمرت بفضل الله خيرًا كثيرًا.

 اللهم إنك تعلم أني أحببت شيخي "ماهر عقل" في الله منذ قديم الزمن، فاجمعني وإياه في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا أرحم الراحمين.