محمد خير موسى

في أيام سليمان بن عبد الملك سادَ رجلٌ من بني أسد اسمه "خزيمة بن بشر"، وكان أمثولةً في المروءة والكرم والمواساة، متقلّباً في نعم الله الوافرة، فلم يزل على تلك الحالة حتى ألمّت به الحاجة، وافتقرَ بعدَ غنى وانفضّ عنه إخوانه عند احتياجه إليهم وقلاهُ من كان يواسيهم ويتفضل عليهم.

ضاقت عليه الأرض بما رحبت وغلّقت في وجهه الأبواب؛ فأتى امرأته -وكانت ابنة عمه- فقال لها: يا بنت العم! قد رأيت من إخواني تغيُّـرا، وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت. ثم أغلق بابه عليه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد، وبقي حائراً في حاله يضربُ الأخماس بالأسداس.

وكان "عكرمةُ الفياض" -وقد سمي بذلك لفرط كرمه- والياً على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه، إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فقال عكرمة: ما حالُه؟ فقالوا: صار في أسوأ الأحوال، وقد أغلق بابه، ولزم بيته؛ فتساءل عكرمة الفياض مستهجناً مستنكراً: فما وجد خزيمة بن بشر مواسياً ولا مكافئاً؟

فلمّا كان اللّيل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرّاً من أهله، فركب ومعه غلام واحد يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه، وتقدم إلى الباب فطرقه بنفسه، ليكون الحديث ثنائيّاً والحوار لا يطّلع عليه إلّا المتحاورون؛ فخرج خزيمة فقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلاً، فوضعه وقبض على لجام الدابة وقال له: من أنت جُعلت فداك؟ قال له: ما جئت في هذا الوقت من الليلِ وأنا أريد أن تعرفني، قال خزيمة: فما أقبله أو تخبرني من أنت؟ قال: أنا "جابرُ عثرات الكرام"، قال: زدني، قال: لا، ثم مضى، وبقي "جابر عثرات الكرام" لغزاً يبحثُ عن جوابٍ مدّة من الزّمن.

جابر عثرات الكرامُ يُبعَثُ من جديدٍ في العوالم الافتراضيّة

ما إن تنشر فتاةٌ تغريدةً أو منشوراً يفيضُ همّاً، أو يقطرُ حزناً؛ أو يدفق كآبة؛ على فيسبوك أو تويتر، أو تضع صورةً ترمزُ إلى الوجع، أو فيها ملامح الانكسار على الانستجرام، أو تضع مقطعاً مرئيّاً دامعاً أو مع موسيقى حزينةٍ على سناب شات أو تيك توك حتّى يسارعَ النَّشامى وأهلُ الشّهامةِ إلى التّسلّلِ إلى خلوتِها من خلفِ نوافذِ الدردشةِ ويُبعَث جابر عثراتِ الكرام من جدث الزّمن من جديد، ويأتي متلثّماً لا ليقدّم المال هذه المرّة بل لينثر كلماتِه وتعاطفه وعواطفه على الخاص بعيداً عن أعين الجمهور والمتابعين.

وهنا تبدأ فيوضاتُ الإشفاقِ تتدفّقُ من بينِ أحرفِهم المتحرّقة عليها، وتتدافعُ المواعظُ تتسابقُ بها العباراتُ المزدانةُ باللّهفةِ لتمسح حزنها وتبلسمَ جراحَها، وتصدّقُ المسكينةُ أَيمَانَ الصّدقِ والحرصِ؛ فتشعرُ بالامتنانِ للمُصلِحِ المختفي وراءَ اسمٍ وهميّ، أو الحريصِ المتستّرِ وراءَ هيبةِ الاسم الصريح.

يقتحمُ عليها خلوتها مع نفسها -لا سيما اللّيليّة منها- من الباب الخلفيّ، ويقفز في وجهها من بوّابة الدّردشة الخاصّة في مواقع التّواصل الاجتماعي، ونوافذ الدّردشات الثّنائيّة في العوالم الافتراضيّة، وهي التي تشعر بالحزن المكسو بالملل والوحدة فتتجاوب معه لتقطيع الوقت وتجاوز عتبة اللّيل الثّقيل دون أن تحسب أو تفكّر أصلاً بالمآلات والعواقب.

يقول لها: إنّه "يرى في عينيها حزناً كبيراً" و"يرى في ملامح كلماتها هموماً كبيرةً وانكساراتٍ دفينة"؛ ولأنّها طيبة القلب في حالة ضعفٍ واحتياج ستتحسّس أحزانها وآلام روحها وتظنّ أنّه استطاع قراءة أعماقها.

ويقول لها: إنّه "وجد عندها الأمان في هذا الزمن المخيف" و"اكتشفها في زمن التّيه والضّياع"، وستشعر بالتقدير لنظرته الثّاقبة ويعطيه قلبها الأمان!

ويقول لها: إنّه "سيكون لها الحضن الدّافئ في هذا الواقع الصعب" وستهرع إليه لأنّها تشعر بالوحدة والعزلة والحاجة إلى المعين!

سيقول لها: "لقد أصبح للحياة طعمٌ مختلفٌ منذ أن عرفها"، وستظنّ أنّها أيضاً وجدت فيه الطّعم الحلو لوجودها وحياتها!

سيتطوّر الأمر ليصارحها بحبّه، وستبادله الحبّ بأكثر منه، وستغرق بأحلام اليقظة عن مستقبل يتدفّق بالسّعادة.

وبعد أن ينال منها واقعاً، ويقضي منها ما كان يخطّط لبلوغه، ويُشبع غريزته وشهوته، أو ينال ما يريد من محادثات كتابيّة وصوتيّة مغرقة في الشهوة، ويحصل على صورها في وضعيّاتها التي لا تراها فيها أقرب صاحباتِها؛ سيدير لها الظّهر ويدوس كلّ كلامه، ويضع وعوده في سلّة القمامة الشّبيهة بأخلاقه، وينعتها بأوصاف تُشعرها بما لا تتخيّله من الهوان والأذى، وتجعلها تنظر لنفسها نظرةً فيها الكثير من المعاني البائسة، وتحمّلُ نفسَها المسؤوليّة الكاملة عمّا وصلت إليه، فتنزوي إلى ذاتها وتكفر بنفسها وتدخلُ في مرحلةٍ قاسية من الاكتئاب والعزلة.

كيف تتعاملين مع "جابر عثرات الكرام" الافتراضيّ؟

كي لا تتحطّم الحواجزُ المرفوعة في العالم الواقعيّ تحت أقدام وطأة العوالم الافتراضيّة، وحتّى تُرفَعَ الجدُرُ التي تحطّمت في لحظة ضعفٍ وحاجةٍ إلى احتواء؛ وحتى لا تقعي في ورطات مع عديمي المروءة وقليلي الكرامة؛ فأنصتي أيتها الكريمة العزيزة:

أولاً: لا تصدّقي الملثّمينَ القابعينَ خلفَ أسماء وهميّة مهما أظهروا من حرصٍ وحدبٍ وإشفاقٍ، فإنّ جابرَ عثراتِ الكرامِ لا يتسلّلُ إلى مخادعِ الغافلاتِ في لحظةِ انكسارٍ وضعف، ومن يتستّر خلف اسم وهميّ ينبغي التّعامل معه بالاتّهام ابتداءً وعدم فتح الباب له من حيثُ الأصل.

ثانياً: من يقتنصُ لحظةَ ضعفِ الأنثى وانكسارِها وحاجتِها إلى من يسمعها ويحتويها؛ فيسارعُ لينالَ الثّقةَ التي تعطيها الأنثى في لحظة ضعفها لمن يمسحُ بحنانِ كلماتِه على جراحها النازفة؛ فغالباً ما يكونُ ذئباً يلبسُ جلدَ الحَمَلِ الوديعِ؛ فاحذريه ولا تصدّقيه ولا تُجارِيه ولا تُحادثيه، فذلك أسلم لنفسِك وأريح لرأسِك.

ثالثاً: كثيرٌ من هؤلاءِ الغيارى على جراحِ الإناثِ وأحزانهنّ لا تسمعُ لهم همساً، ولا ترى منهم حرقةً، ولا تعرفُ بواباتِ الدّردشة وجوههم عندما يكونُ الذي امتلأت كلماتُه كلوماً وجراحاً وفاضت عباراتُه همّاً وغمّاً؛ شابّاً ذكراً، ممّا يدلّ على أنّ الغيرةَ الانتقائيّة التي يسارعُ بها الكثيرون لنجدةِ الإناثِ من كوابيس الهمّ ليست لوجه الله تعالى، بل هي ابتغاء الوجه الحسن والأنوثة الكامنة خلف ستار العوالم الافتراضيّة، فلو أنّ هؤلاء ما حدَّثوكِ إلّا بكتابِ الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم؛ فلا تصدّقيهم يا ذات القلب الطيّب.

"جابرُ عثرات الكرام" فكرةٌ راقيةٌ، ونموذجٌ يحتاج منّا إلى تفعيله في عوالمنا الواقعيّة، لا أن نحطّمه ونكسر هيبتَه في العوالم الافتراضيّة بإلباسه أثواب اللّصوص المتسلقّين إلى قلوب الفتيات المسكينات عبر نوافذ الهمّ المفتوحة في عتمات اللّيالي الثّقيلة.