الحمد لله الذي هدانا للحق وثبتنا عليه، ونسأله أن نلقاه ونحن ثابتون عليه؛ فالمتمسكون بالحق قابضون على جمر من نار، تحترق أيديهم ولا يتركونه، واجهوا الفتن والمحن ما عصفت بهم ، سمعنا قصصهم ورويت لنا حكاياتهم عن ثباتهم في وجه الطغاة والظالمين؛ فأصبحوا قدوات لنا في الثبات.

يقول الإمام البنا وأريد بالثبات:

أن يظل الأخ عاملا مجاهدا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام؛ حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين, فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23) , والوقت عندنا جزء من العلاج , والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات, ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة .

وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا الستة تحتاج إلى حسن الإعداد وتحين الفرص ودقة الإنفاذ , وكل ذلك مرهون بوقته (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (الاسراء:51) .

فإلى أخي: الذي تمسك بثوابت دعوته وقت المحن إلى رفيق الدرب في الشدائد والفتن .

إليك أخي : أكتب إليك بماء العين، وأهمس في روحك قبل أذنك، وأخاطب قلبك قبل عقلك .

يا أخي: من البصيرة أن يدرك السائر إلى ربه الصوارف المنصوبة على قارعة الطريق وفي جنباته، فهي منزلقات خطرة ومثبطات عثرة.

ومن الحكمة يا أخي ألا تجعلهم يشغلوك بمعارك جانبية أو يشتتوا جهدك في قضايا هامشية، فلا تعطهم الفرصة أن يصرفوك عن الميدان الذى أوقفت حياتك له، ونذرت نفسك للتضحية فى سبيله.

إلى العمل يا أخي فهو أصدق الرد على ما يكيدون، وأبلغ الصد عما يفترون، واثبت على دعوتك وإن تخلى عنها الناس، وثق في تأييد الله لها وإن اشتد البأس.

فالثبات على الحق وإن كنت وحدك هو تأييد وتوفيق من الله لك، وهو للدعوة نصر المرحلة.

يا أخي، يا حبيب القلب ورفيق الدرب: لا تغرنك انتفاشة الباطل وعلو صوت المرجفين وتكاثر الشامتين أو المثبطين حولك، فكل ذلك في ميزان الحق هباء زاهق (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).

نعم أيها الأحبة: لا تغرنكم انتفاشة الباطل، ولا يُرهبنكم بغيُه وعدوانه، ولا يتطرق اليأس إلى قلوبكم بصولاته وجولاته، لأنه باطل زهوق.

وتدبروا قول الله تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا﴾، ما نتيجة البغي والعدوان؟ ﴿أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾.

ولكم أن تأمَّلُوا كيف يتداعى أهل الباطل لِنُصرَة باطلهم؟ وكيف يتواصَوّنَ بالصبر على آلهتهم، والانطلاق الجماعي للدفاع عن باطلهم؟ ﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (سورة ص: 6)

والأحرى بأهل الحق أن يكون هذا ديدنهم في نُصرة دينهم الحق، «بالوحدة المُقوية، والانطلاقة الواعية، وإدراك الاخطار المعادية، والتضحية العالية، والصبر على لأواء الطريق وفتنه العاتية.»

والثبات هدية الله لأهل دعوته، وهبة المولى للمؤمنين الربانيين، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) (إبراهيم: 27)، فلا ركون لطاغية ظالم، أو انهزام أمام جبار باطش، إلا إذا تخلينا عن الله، فتُرفع عنا هذه المنَّة الربانية، (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك لَقَدْ كِدْت تَرْكَن إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (الإسراء: 74)، ولا تأييد من الله، ولا نصرة في هذه الحياة إلا بهذه العطية الإلهية، (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود: 120)، فما أحوجنا إلى القيادة الربانية، والجنود الثابتين، والثقة والأمل في نصر الله.

ولنتذكر هنا المعنى الذى أورده الإمام ابن القيم – رحمه الله – في كتابه القيم (مدارج السالكين)، فصل (رفيق طالب الصراط المستقيم)، حيث قال: «وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: (عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين)، وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.»

وخلاصة القول في هذا الأمر: «الزم الطريق عاملًا باذلًا، وسر فى ركب الأتقياء الأخفياء، فالخفي على هذه السبيل خير من الظاهر، ولا تلتفت لمن تمحور حول نفسه؛ وإن علا صوته وذاع أمره، فهو ظاهرة لن تدوم، ولا تنشغل بمن تنكب الطريق وانحرف عن الجادة؛ مهما كان قدره وكثر حشده، فسرعان ما ينزوي، فدعوتنا دعوة مبدأ، لا تقبل الشركة، ولا يصلح لها إلا من أحاطها، والتزم نهجها، وأخلص البذل لها.» والحمد لله رب العالمين

منقل بتصرف – من زاد السائرين