الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين، ثم أما بعد

إن المتأمل في كتابات الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله – يجد نفسه أمام رجل موفق من ربه، بدليل ما تتركه هذه الكتابات من أثر في نفس قارئها، فضلا عن عمق وثراء معانيها، وبساطة أسلوبها ومبانيها، وواقعية مراميها.

فتجده يؤصل القضايا، ويحلل عناصرها، ويشخص الداء، ويحدد الدواء، يبث في النفوس الأمل، ويحثها على الجهد والعمل. وتلحظ فيما كتب وسطر، أنك أمام داعية ومرب وفقيه ومجرب، أمام عالم أحسن النظر في كتاب الله وسنة رسوله وسيرة صحابته والتابعين، وملم بتجارب التاريخ والأمم.

خلاصة القول في هذا المدخل، أن كل ماسبق من فضل هو توفيق من الله لهذا القائد الرباني، ودليل على إخلاصه وتضحيته من أجل دعوته وفكرته، ولذلك كانت كلماته وكتاباته تنفذ إلى قلوب وعقول من يُعمل فيها النظر.

والأمثلة التي تؤكد ذلك كثيرة في كتابات الأستاذ حسن البنا، ولا سيما في مجموعة الرسائل، والتى نختار منها اليوم (علاقة صفات الفرد بواجباته) كما وردت في رسالة التعاليم.

حول رسالة التعاليم

تعد هذه الرسالة من أهم رسائل الإمام حسن البنا، فرغم صغر حجمها، إلا أنها تتضمن قضايا وتوجيهات أساسية في بناء هذه الجماعة والتكوين الفكري والتربوي لأبنائها، ولم تكن رسالة للعموم ولكنها كانت خاصة بالإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين، وقد جاءت بعد عشر سنوات من عمر الدعوة، حيث صدرت في يوليو 1938م.

وتنقسم إلى مقدمة وخاتمة وبينهما محوريين أساسيين، المحور الأول (أركان البيعة) والمحور الثاني (واجبات الأخ العامل). وكأن المحور الأول يمثل الأساس الفكري والمبادئ التى تقوم عليها هذه الدعوة، والمحور الثانى هو الأساس العملي والترجمة السلوكية لهذه الأركان والمبادئ العشرة.

وقد جعل الامام حسن البنا الالتزام بهذه الواجبات من مقنضيات البيعة مع الحق سبحانه وتعالى، حيث قال في رسالة التعاليم: «أيها الأخ الصادق: إن إيمانك بهذه البيعة يوجب عليك أداء هذه الواجبات، حتى تكون لبنة قوية في هذا البناء»

بين صفات الفرد وواجباته

وقد أورد الإمام البنا في الركن الثالث، وهو (ركن العمل) سبع مراتب، تبدأ بالفرد وتنتهي بأستاذية العالم، وبالنظر في مرتبة الفرد نجد الإمام البنا يقول: «إصلاح نفسه حتى يكون: (قوي الجسم – متين الخلق – مثقف الفكر – قادراً على الكسب – سليم العقيدة – صحيح العبادة – مجاهداً لنفسه – حريصا على وقته – منظماً في شئونه – نافعاً لغيره، وذلك واجب كل أخ على حدته».

وهنا نقف أمام بعض المعاني والفوائد:

1- أن الأستاذ البنا ذكر (إصلاح نفسه)، الأمر الذي يدعونا إلى تقوية جانب التربية الذاتية لدى الأفراد، فلابد للفرد من جهد مع نفسه لإصلاحها، ولا نقول إن المربى فقط هو المسئول الوحيد عن إصلاح الأفراد، ولكن لا بدَّ للفرد من جهد إصلاحي مع نفسه حتى يكسبها هذه الصفات.

2- شمول الصفات العشر لجميع جوانب وميادين التربية، مثل (التربية الإيمانية والعبادية – التربية الأخلاقية والسلوكية – التربية الثقافية والفكرية – التربية الاجتماعية – التربية السياسية – التربية الإقتصادية – التربية الجماعية التنظيمية.)، وهذا الشمول يبرهن على وعي الإمام البنا وصلاحية المنهج الذى يدعو إليه في ميادين الإصلاح والتغيير.

3- رعاية الصفات العشر لكل مكونات الشخصية الإنسانية (العقل – القلب – الجوارح)، وشمولها لمجالات الأهداف التربوية (المعرفية – الوجدانية – المهارية). فنجد فيها الصفات التى تُعنى بالعقل كـ (مثقف الفكر)، ومنها ما يُعنى بالقلب كـ (سليم العقيدة – صحيح العبادة)، ومنها ما يُعنى بالجوارح والسلوك كـ (منظماً فى شئونه – نافعاً لغيره – ..)

4- ارتباط واجبات الأخ العامل بهذه الصفات العشر، وكأنها (أي الواجبات) مؤشرات على  تحقق الصفات في الفرد المسلم، ودليل عملي يمكن قياسه، ومُعين (حال الالتزام بها) على استكمال تحقق الصفات العشر فى الفرد المسلم العامل. وهو ما سندلل عليه في ختام هذا المقال.

5- أن الأستاذ البنا اعتبرها (واجبات) ولم يسمها (توصيات) أو (توجيهات) أو (ممارسات)، وهو ما يشير إلى ضرورة الالتزام بتنفيذ هذه الواجبات، وأنها بالنسبة للفرد الذى قَبِلَ البيعة بأركانها العشرة ملزمة، بأن يحافظ عليها ويوجبها على نفسه. وهو ما أكد عليه الإمام البنا فى مقدمة الرسالة حين قال: «وهي ليست دروساً تحفظ، ولكنها تعليمات تنفذ، فإلى العمل أيها الإخوان الصادقون».

6- أن التفصيل فى صفات الفرد، وتصدره لمراتب العمل يدل دلالة قاطعة على مكانة الفرد فى عملية التغيير والإصلاح، وأنه حجر الأساس فى بناء الأمم ونهضات الشعوب، وهو القاسم المشترك فيما يليه من مراتب، فهو الوالد أو الوالدة فى البيت، وهو عضو فى المجتمع، وهو الوزير في الحكومة، وهو رئيس الدولة، وهو الخليفة، وبالتالي كان الاهتمام به وتربيته وتكوينه لهما أبلغ الأثر.

 والجدير بالذكر هنا أن الإمام البنا في مواضع أخرى من تراثه ورسائله، كان يؤكد على أهمية بناء الفرد وتكوينه، وأنه أساس التغيير والإصلاح، وبدون الفرد الصالح المصلح لا يمكن أن يتحقق الإصلاح والتغيير في الأمة. ومما أورده في هذا السياق:

– «أيها الإخوان: العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا، فجاهدوا أنفسكم وإحملوها على تعاليم الإسلام وأحكامه، ولا تتهاونوا معها في ذلك بأي وجه من الوجوه، وأقبلوا على الطاعة، وفروا من الإثم وتطهروا من العصيان، وصلوا قلوبكم ومشاعركم دائما بالله الذي له ملك السموات ةالأرض، قاوموا الكسل والعجز، ووجهوا شبابكم ومشاعركم وعواطفكم إلى الفضيلة الطاهرة النقية، وحاسبوا أنفسكم فيه حسابا عسيرا، وإحذروا أن تمر بكم دقيقة واحدة لايكون لأحدكم فيها عمل طيب وسعي مبرور» توجيه بعد المؤتمر الخامس عام 1939

– «ميدانكم الأول انفسكم، فإذا انتصرت عليها كنت على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنت على سواها أعجز. فجربوا الكفاح معها أولًا، واذكروا أن الدنيا جميعا تترقب جيلا من الشباب الممتاز بالطهر الكامل والخلق القوى الفاضل، فكونوا أنتم هذا الشباب». من مقال للإمام البنا.

– «كونوا أنفسكم تتكون بكم أمتكم».

– «إذا وجد المسلم الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعا».

– «أن الرجل الواحد في وسعه أن يبنى أمة إذا صحت رجولته». رسالة "هل نحن قوم عمليون؟"

وللحديث بقية عن نماذج للعلاقة بين الصفات والواجبات .