عدم التفرقة بين الغاية والأهداف في الطريق إلى الله قد يكون من أعظم أسباب السقوط وعدم مواصلة السير. فإذا كان هدف جهادنا نصرة الحق والتمكين لدين الله في الأرض وتخليص الدنيا من الظلمة المستبدين فإن غايتنا مرضاة ربنا والفوز بالجنة.

ومن رحمة الله بنا أن أمرنا بتحقيق الغاية ولم يأمرنا بتحقيق الأهداف، وإنما أمرنا بالسعي نحو تحقيقها للفوز بالغاية الكبرى، فمن تعلق بالنصر ونسي الغاية قد يصاب بالإحباط عند تأخر النصر، لهذا وصف الله المؤمنين بالتواصي بالغاية (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))، العصر. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17))، البلد.

ومن نظر إلى الواقع معزولاً عن الغاية ابتعد عن المواجهة واشتد به الخوف؛ لهذا كانت تربية رسول الله ﷺ لأمته ربطهم بالغاية لا بالأهداف، كان ذلك في بيعته لهم، وفي جهادهم معه، وفي كل مجالسه صلوات الله وسلامه عليه، ففي بيعة العقبة لما علم الأنصار أنهم إذا وفوا بهذه البيعة سيبذلون كثيرا ويقطعون حبالا كثيرة ويتعرضون لعداوات العرب والعجم فقالوا: «يا رسول الله ماذا لنا إذا وفينا؟» قال: «لكم الجنة»، قالوا: «ربح البيع لانقيل ولا نستقيل»

وكان رسول الله ﷺ قادراً أن يبشرهم بفتوحات بشره الله بها، لكنه لم يفعل!! حتى تكون بيعتهم خالصة لايعكر صفوها شيئ، ولو كان النصر الذي يحبونه ويحبه لهم ربهم، كذلك ماذا لو بشرهم بالفتوحات ومات منهم من مات في بدر وأحد قبل أن يرى مابشربه؟!!، لهذا كان أحدهم يستقبل القتل قائلاً: «فزت ورب الكعبة»!! دون النظر إلى شيئ آخر، لأنه حقق غايته التي عاهد عليها ربه.

وما حمل المجاهدين على القتال في بدر بعد ضعفهم إلا التذكير بالجنة، ويكفي أن تسمع هذا الحوار بين رسول الله واثنين من أصحابه يوم بدر:

نظر المجاهدون إلى عدوهم فاشتد بهم الخوف فقال رسول الله ﷺ: «والله مابينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة»!! فنقلهم بهذه الكلمات من الخوف على ضياع النصر إلى الرغبة في دخول الجنة فانتقلوا من الهدف إلى الغاية. فيقف عمير بن الحمام الذي لايملك إلا ثوبه وسيفه قائلا: «أسالك بالله يارسول الله مابيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء فأدخل الجنة؟» قال رسول الله: «إيه والذي نفسي بيده»، ومعه تمرات يأكلها فما وجد لها طعماً بعد سماع خبر الجنة فرمى التمرات وقال: «والله إن بقيت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة» !! وتقدم فقاتل حتى قتل فقال رسول الله لأصحابه: «لقي عمير ربه وهو يضحك له».

وهنا يتقدم الثاني: عوف بن عفراء رضي الله عنه سائلاً، يا رسول الله: «ما يُضحك الرب تبارك وتعالى من عبده اليوم؟» قال هذا بعد سماع رسول الله يقول لأصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض»، فقام أخوه عمير فدخلها وربه يضحك له فأراد هو الآخر أن يضحك له ربه، لقد نسوا بذكر الجنة قوة عدوهم، فرأوه قليلاً، وما شغلهم في مواجهة عدوهم إلا دخول الجنة ولقاء ربهم وهو يضحك لهم، حتى قال أحدهم: «لن نعدم من رب يضحك خيراً».

قال له رسول الله رداً على سؤاله: مايضحك الرب من عبده؟ قال: «أن يراه قد غمس يده في القتال حاسراً»، فنزع عوف بن عفراء درعه، ثم تقدم فقاتل حتى قُتل.

 يجود بالنفس إن ضن البخيل بها .. والجود بالنفس أغلى غاية الجود