إن تمام التذكر يكون مع الهدوء والسكون .
فمن ثم كانت مدرسة الليل .
وكان ترغيب الله للمؤمنين أن يجددوا سمت الذين {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} وإذا انتصف الليل ، في القرون الأولى ، كانت أصوات المؤذنين ترتفع تـنادي :
يارجال الليل جدوا
-
-
-
- رب صوت لا يرد
-
-
مـا يـقـوم الـلـيل إلا
-
-
-
- مـن لـه عـزم وجِـدُّ
-
-
و إنها حقاً لمدرسة ، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يذكوا شعلة حماستهم ، وينشروا النور في الأرجاء التي لفتها ظلمات الجاهلية .
و إنها تجربة إقبال يوجزها فيقول :
نـائح والـلـيـل سـاج سادل
-
-
-
- يـهجـع الناس و دمـعي هـاطل
-
-
تصطلي روحي بحزن وألم
-
-
-
- ورد ( يا قوم ) أنسي في الظلم
-
-
أنـا كالـشـمع دمـوعي غـسـلي
-
-
-
- في ظلام الـليـل أذكي شعـلي
-
-
مـحفـل الناس بـنوري يشـرق
-
-
-
- أنـشر النور و نـفسي أحرق 29
-
-
و إن دعوة الإسلام اليوم لا تعتـلي حتى يذكي دعاتها شعلهم بليل ، ولا تشرق أنوارها فتبدد ظلمات جاهلية القرن العشرين مالم تلهج بـ( يا قيوم ) .
ما نقول هذا أول مرة ، وإنما هي وصية الإمام البنا حين خاطب الدعاة فقال :
" دقائق الليل غالية ، فلا ترخصوها بالغفلة " 30
أفعيينا أن نعيد السمت الأول ، أم غرنا اجتهاد في التساهل و التسيب و الكسل جديد ؟
إن القول لدى الله لا يبدل ، ولكنا أرخصنا الدقائق الغالية بالغفلة ، فثقـل المغرم ولم يجعل الله لنا من أمرنا يسراً .
إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور ، بل برجعة نصوح إلى العرف الأول ، ومتى ما صفت القلوب بتوبة ، و وعت هذا الكلام أذن واعية : كانت تحلة الورطة الحاضرة التي سببتها الغفلة المتواصلة .
ذلك شرط لا بد منه .
و كأن النصر حجب عنا لأننا نادينا من وراء الحجرات ، وجهرنا رافعين أصواتـنا نوجب على الله لنا هذا النصر بادلال ، نبيعه و نثبت لنا حقاً عاجلاً في الثمن من دون أن نقدم بين يدي بيعنا همساً في الأسحار ، ولا الدمع المدرار ، و إنما النصر هبة محضة ، يقر الله بها عين من يشاء من رجال مدرسة الليل في الحياة الدنيا ، ولا يلت الآخرين المحصرين من ثمنهم في الآخرة شيئاً ، ويوقع أجرهم عليه .
إن تعلم الإخلاص ، وفضح الأمل الكاذب الدنيوي أجلى أعطيات مدرسة الليل ، كما يقول وليد ، وذلك ما توجب تربيتـنا تركيزه وتعميقه في النفوس . قال ، والحق ما قال :
ياليل قيامك مدرسة
-
-
-
- فيها القرآن يدرسني
-
-
معنى الإخلاص فألزمه
-
-
-
- نهجاً بالجنة يجلسني
-
-
و يبصرني كيف الدنيا
-
-
-
- بالأمل الكاذب تغمسني
-
-
مثل الحرباء تلونها
-
-
-
- بالإثم تحاول تطمسنى
-
-
فأباعدها و أعاندها
-
-
-
- و أراقبها تتهجسني
-
-
فأشد القلب بخالقه
-
-
-
- والذكر الدائم يحرسني 31
-
-
وأكثر من هذا فإن من يتخرج في مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله ، والمتخلف عنها يابس قاس تـقسو قلوب الناظرين إليه، والدليل عند بشر بن الحارث الحافي منذ القديم ، شاهده وأرشدك إليه, فقال :
" بحسبك أن قوماً موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وأن قوماً أحياء تـقسو القلوب برؤيتهم " .
فلم كان ذلك أن لم يكن ليل الأولين يقظة ، وليل غيرهم نوماً ؟ ونهار الأولين جداً ، ونهار الآخرين شهوة ؟
أتسبقك الحمامة ؟
وإنه لقـلب رقيق قلب الفقيه الزاهد أبي سهل الصعلوكي ، يظهره تأنيبه لنفسه في قوله :
أنام على سهو و تبكي الحمائم
-
-
-
- وليس لها جرم ومني الجرائم
-
-
كذبت لعمرو الله لو كنت عاقلاً
-
-
-
- لما سبقتـني بالبكاء الحمائم 32
-
-
فإن الذنب لا يغسل إلا بدمع ، و الشجاعة تسقى بدموع الليل ، وما عرف تاريخ الإسلام رجاله إلا كذلك ، ولم يقل ابن القيم باطلاً في وصفه لهم بأنهم :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم
-
-
-
- بتلاوة ، وتضرع و سؤال
-
-
وعيونهم تجري بفيض دموعهم
-
-
-
- مثل انهمال الوابل الهطال
-
-
في الليل رهبان ، وعند جهادهم
-
-
-
- لعدوهم من أشجع الأبطال
-
-
بوجوههم أثر السجود لربهم
-
-
-
- وبها أشعة نوره المتلالي 33
-
-
و سَأَلَ عبد الوهاب عزام الليل عن أروع أسراره ، فأبان جوابه عن إصابة المؤمنين والمذنبين في تحريهم إياه و استمع لتحاورهما :
قلت لليل : كم بصدرك سر
-
-
-
- أنبئني ما أروع الأسرار ؟
-
-
قال : ما ضاء في ظلامي سر
-
-
-
- كدموع المنيب في الأسحار34
-
-
أفترى المؤمنين إلا مصدق بجواب الليل ، فهو مسارع مستبق ؟
أم ترى أهل البلاغة إلا في إذاعة لما قال ؟ يستملون الناس :
فاز من سبح والناس هجوع
يدفن الرغبة ما بين الضلوع
و يغشيه سكون و خشوع
ذاكراً لله والدمع هموع
سوف يغدو ذلك الدمع شموع
لتضيء الدرب يوم المحشر سجدة لله عند السَحَر35
و يلقنون المذنبين المخطئين طريق الجنة ، فيستملون المسرف في أخرى أن :
عد إلى الله بقلب خاشع
وادعه ليلاً بطرف دامع
يتولاك بعفو واسع
و يبدل كل تلك الحسنات حسنات أجرها لن ينفدا
كل هذا العفو للعبد المنيب
سابغا من خالق الكون الرحيب
للذي تاب إليه من قريب
من كتاب "الرقائق" للأستاذ محمد أحمد الراشد