مَلَكَ المرشد الراشد حسن الهضيبي بشخصيته وصفاته ومواقفه على كاتبنا الصحفي الكبير مصطفى أمين عقلَه ومشاعرَه- وقلما ملك أحدٌ عقلَ ومشاعر هذا الصحفي العملاق هكذا- فكتب عنه كثيرًا، وحفلت كتاباته عنه بمشاعر الإعجاب والتقدير بل والانبهار بهذا الجبل الأشم الشامخ الصامد في وجه الظلم والطغيان، رغم قسوة السجن، وهمجية التعذيب، وتحالف العلل والأمراض، وتقدم السن، وضعف الجسد وشيخوخته.

 

وهذه بعض من كتابات عملاق الصحافة المصرية مصطفى أمين عن المرشد الراشد: حسن الهضيبي، نوردها لعل بعض صغار الكتبة في صحفنا المصرية- الذين يلوثون صفحاتها بإسفافهم وتطاولهم على دعوة الإخوان ومرشديها وقادتها- لعلهم من إنصاف عملاق الصحافة يتعلمون، وربما يستحون.

 

(فكرة:1)

"عرفت الأستاذ حسن الهضيبي أول ما عرفته في عام 1939م، وكنت رئيسًا لتحريرِ مجلةِ آخر ساعة، وأرسلت المفوضية الألمانية بالقاهرة خطابًا إلى وزير الخارجية تحتج على لأنني كتبت مقالاً قلت فيه أن هتلر ديكتاتور، وأنَّ هذه إهانة للفوهرر، وقانون العقوبات المصري يمنع مهاجمة رؤساء الدول الأجنبية.

 

وطلب الوزير الألماني تقديمي إلى محكمة الجنايات، واتصل وزير الخارجية بوزير العدل، واتصل وزير العدل بالنائب العام، وقرَّر النائب العام تكليفَ رئيس النيابة الأستاذ الهضيبي لمقابلتي، واستقبلني رئيس النيابة مقابلةً وديةً لم أتعود أن ألقاها من رؤساء النيابة الذين يحققون معي في قضايا الصحف.

 

وبدأ حديثه وسألني عن أي نوع من القهوة أود أن أشرب، وطلبت (قهوة مضبوط)، فطلب لي رئيس النيابة القهوة ثم طلب (واحد ليمون)، وبعد ذلك قال لي: أنت متهم بأنك أهنت أدولف هتلر رئيس دولة ألمانيا، قالها بهدوء بنفس النبرة التي طلب بها لي (واحد قهوة، وواحد ليمون)، وكأنه يقول لي أهلاً وسهلاً وحشتنا وآنستنا.

قلت له: أنا لم أهن هتلر.. أنا قلت عنه الحقيقة.

قال الهضيبي: أنت قلت عنه إنه ديكتاتور وطاغية، وإنه قضى على حقوق الإنسان في ألمانيا؟
وسألت رئيس النيابة: وهل هو ديكتاتور أو لا؟

قال ضاحكًا: المفروض أنني أنا الذي أسألك لا أنت الذي تسألني.

قلت: المفروض أن يقول وزير ألمانيا المفوض إنني نسبت إلى هتلر أنه قضى على حرية الصحافة بينما أن الصحافة حرة في ألمانيا، وأنه ملأ بلاده بالمعتقلات، وأنشأ المحاكم الاستثنائية بينما الحقيقة أنه لا معتقلات هناك ولا محاكم استثنائية.

 


قال الأستاذ الهضيبي: اطمئن إنني لن أقدِّمك لمحكمة الجنايات؛ لأنني أعتقد معك أنه ديكتاتور، وذمتي لا تقبل أن أقدِّم بريئًا إلى المحاكمة، وكل المطلوب منك أن تقول في التحقيق إنك لا تقصد إهانة هتلر.

 

وأمر الأستاذ الهضيبي بفتح المحضر وسألني هذا السؤال وأملى على كاتب التحقيق الإجابة، وأمرني بالانصراف، ولم يطلب مني أن أدفعَ كفالةً كما طلب النائب العام.

 

ولاحظت وأنا أتحدث إلى الهضيبي أنه رجل قليل الكلام، تتوهم أنه صارم بينما هو رجل رقيق هادئ فيه طيبة ممتزجة بالذكاء الحاد، قوي الملاحظة، ثم عرفته بعد ذلك في سجن ليمان طرة- كانت زنزانته بجوار زنزانتي- جذبني بصموده وقوة احتماله، يقابل البطش بابتسامة سخرية، ويرد على الظلم بالإيمان، يناقشك بهدوء، لا يغضب ولا يحتد ولا يشكو، وحرموه عدة شهور من أن يتلقى أي خطاب من زوجته وبناته، وكان أولاده مسجونين في سجن آخر، وكلَّفت إحدى تلميذاتي أن تتصل بابنته المدرسة بكلية طب قصر العيني لتقول لها إن والدها بخير، هذه هي الرسالة الوحيدة التي رضي أن أحملها لأسرته، لقد منعوا عنه الزيارات ومنعوا عنه الأدوية لعدة أسابيع، ومع ذلك كان يبتسم ويضحك ويقول: صحتي الآن أحسن مما كانت عليه خارج السجن، كان يحمد الله على أنه يعيش في زنزانة.

"لا نعرف قيمة المعادن إلا عندما ندخلها النار". (جريدة الأخبار- 12/6/ 1986).

 

(فكـــرة: 2)

 

 

أُعجبت بصموده، انهالت على رأسه الضربات فلم يركع, حاصرته المصائب فلم ييأس، تلقى الطعنات من الخلف فلم يسقط على الأرض. كان يحلم وكل من حوله يائسون, كان قويًّا وأنصاره ينفضون ويستضعفون.

 

رأيته في محنته أكبر منه في مجده, سقط من المقعد واقفًا وغيره يجلس فوق المقعد راكعًا, رأيته يستعذب الحرمان وغيره لا يستعذب إلا السلطان.

 

الرجال كالمعادن لا تظهر قيمتهم الحقيقية إلا إذا وضعوا في النار, هنا يظهر الفرق بين الرجل الحديدي والرجل القش, بين الذي يموت واقفًا والذي يعيش راكعًا, بين الذي يكبر من الشدائد والذي يتضاءل في المحن والأزمات.

 

رأيته يستقبل المحنة بابتسامة كأنه يستقبل النعمة, ينام على الأسفلت كأنه ينام على مرتبة من ريش النعام, يأكل الخبز الممزوج بالتراب ويحمد الله وكأنه يتناول الطعام على مائدة ملكية, تُعارضه فلا يغضب, وتُناقشه فلا يحقد، يتقبل النقد بصدرٍ رحب, ويتقبل الثناء بخجل وحياء, لا يجحد لفاضل فضله, ولا يذكر إنسانًا بسوء, إذا جاء مَن طعنه بخنجر في ظهره لا يلعنه ولكن يقول: سامحه الله.

 

عشتُ معه سنوات طويلة, كان بين زنزانته وزنزانتي زنزانة واحدة, كنتُ أراه كلما فتحوا باب زنزانتي, وكانت بينه وبين بعض المسجونين السياسيين مناقشاتٌ طويلة, كانوا عددًا من المسجونين الذين عُذبوا وصلبوا وضربوا وأُهينوا وانتهكت أعراضهم, كانوا يصرون على الثأر والانتقام من معذبيهم بعد أن يخرجوا إلى الحرية, سيفعلون بهم ما فعلوه فيهم, سيذيقونهم من نفس الكأس الذي أرغموهم على تجرعها, كان يعارضهم، ويقول لهم هذه مهمة الله وليست مهمتنا, نحن دعاة ولسنا قضاة, كانوا يحتدون فيهدأ, ويشتدون ويلين, ويرفعون أصواتهم ويخفض صوته, ويهاجمونه فيبتسم, ويتطاولون عليه فيقول لهم هذا حقكم, لا ألوم المجلود إذا صرخ من ألم السياط, لا أعاتب المطعون بالسيف إذا وقع بعض دمه على ثيابي, لا أطلب منكم أن تعفوا وإنما أرجوكم أن تتركوا الأمر إلى الله، فهو المنتقم الجبار, عذاب الله على الظالم أقسى من كل ما تستطيعون من عذاب, لا أريد أن نتساوى نحن المظلومين مع الذين ظلمونا, بطشوا فنبطش بهم, ظلموا فنظلمهم, واجبنا أن نقابل الظلم بالعدل, والقسوة بالرحمة, والجبروت بالتسامح, والعدوان بالصلاة.

 

كان متمسكًا بدينه بغير تعصب.. مؤمنًا بالعدل كارهًا للظلم, يرفض العنف ويقول ما حاجتنا للمسدس ولنا لسان؟! ما حاجتنا للقنبلة ودوي صوت المظلومين أعلى من انفجار الديناميت؟!

كان اسم هذا الرجل هو حسن الهضيبي.. عليه رحمة الله. (نقلاً عن الهضيبي الإمام الممتحن- جابر رزق- ص 141).

 

وبعد ذلك وحين سأله محمد عبد القدوس (يقصد مصطفى أمين) عن انطباعه عن مرشدِ الإخوان، وقد عاش معه عدة سنوات أجابه فقال: أعجبني صلابته وصموده وإيمانه العجيب، كان لا يتأثر بأي اضطهادٍ يقع عليه، فالظلم كان يزيده إيمانًا وصمودًا، عامله الطغاة في بعض الأوقات معاملةً شاذةً، فرفضوا تحويل أي مبلغ إليه، وجاء وقت كان لا يملك فيه حتى صابونة، وكانوا يعاملون المستشار السابق في محكمة النقض معاملة أقل من المجرم القاتل، ومع ذلك لم يشك أو يتبرم أبدًا.

 

ويذكر مصطفى أمين أن الإخوان كانوا يحبون مرشدهم ويعاملونه باحترام شديد، وفي أحد الأيام سمعت ضجةً في زنزانة الهضيبي وأصوات من الإخوان تكاد تتطاول عليه فذهل من ذلك، وبعد خروجهم أسرع إليه ليتعرف على ما حدث، فأجابه الإمام رحمه الله "هؤلاء بعض الإخوان الذين عُذبوا عذابًا لا يصدقه عقل، ويريدون الانتقام مما حدث لهم، فقلت لهم "نحن دعاة ولسنا قضاة"، ورغم أنني لا أوافق على آرائهم إلا أنني أعذرهم، تصوَّر: رجلٌ يُؤتى بزوجته داخل السجن لينُتَهك عرضُها أمامه، لا بد أن يُجنَّ وأن يخرج متحفزًا للانتقام، ولكنَّ دعوتنا ليست ردودَ أفعال للظلم الواقع عليها، وهي لا يمكن أن تقع في منزلقات الثأر والانتقام والدمار والتكفير".

 

ويذكر ميزة أخرى للإمام الراحل حسن الهضيبي، وهي بُعْد نظره وحسه السياسي، وقدرته على تحليل الرجال، يقول مصطفى أمين- بعد هزيمة سنة 1967-: توقعتُ انفراجًا ديمقراطيًّا في مصر، وأنَّ عبد الناصر لا بد أن يتعظ مما حدث له، ويعمل على لمِّ شمل البلد، وذكرت ذلك للهضيبي فخالفني في رأيي وقال إنه لو كان يتعظ من أخطائه لما وقعت هزيمة سنة 1967م أصلاً، ولكنه حاكم ديكتاتور ولا يمكن أن يرجع عن استبداده، ولا بد أن يسيرَ في هذا الطريق إلى نهايته، وصدق الهضيبي في رأيه". (لواء الإسلام- سنة 42- عدد 5- أغسطس 1987).

(لواء الإسلام- سنة 42- عدد 5- أغسطس 1987).