الطريق الصحيح لإزالة المنكر

تناولنا فيما سبق اختلاف بعض التجمعات أو الجماعات الإسلامية حول أسلوب العمل لتحقيق التغيير وإقامة دولة الإسلام، وتعرضنا لتفنيد الرأى أو الاتجاه الذي يغلب الأسلوب السياسيّ على الأسلوب التربوي، وأوضحنا خطأه وخطره ومخالفته لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تعرضنا للاتجاه الذى يرى  استعمال القوة أو العنف كأسلوب للتغيير، وأوضحنا كذلك خطأه وخطره ومغايرته لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورددنا على ادعاء أصحاب هذا الاتجاه أن من سبقوهم على طريق الدعوة وتقدمت بهم السن قد ضعفوا واستكانوا وقلنا إننا بفضل الله أكثر منهم رغبة فى الجهاد وحب الاستشهاد ونمارسه ونسانده فى مواقعه الصحيحة على الساحة الإسلامية و الحمد لله .

إن ما يوجد فى بعض الأقطار من فساد وانحلال وتشجيع أولى الأمر لهذا الفساد والانحلال أو على الأقل حمايته في الوقت الذي يعادون فيه الدعاة الى الله ويؤذونهم ويعذبونهم أو يقتلونهم، لاشك أن هذه الصور مما تثير بعض الشباب المتحمس، وتدفعه إلى محاولة مقاومة هذا الفساد و التصدي له بالقوة، ولكننا رغم إنكارنا لكل صور الفساد والانحلال وإعنات الدعاة إلى الله لا نرى أن أسلوب التخلص من هذه الصور يكون بالقوة وتحطيم الحانات أو المسارح وما شابهها من مراكز الفساد ، وقد حدث فى الأربعينيات من هذا القرن تحطيم لبعض الحانات على يد أفراد من حزب مصر الفتاة، ولم يغير ذلك من الأمر شيئاً، وربما كانت مثل هذه الأعمال الجزئية سبباً فى العمل على حماية هذه الأماكن من قبل النظام الحاكم وتعويضهم عما يخرب عندهم .

ولن أنسى ما حدث لأماكن اللهو فى شارع الهرم عام 1977 من تخريب، ثم أعيد تشييده وإصلاحه على حساب الحكومة، وعند افتتاحه من جديد نشر في الجرائد : ( أرادوه تخريباً وتدميراً وأراده الله إصلاحاً وتعميراً ) .

إن صور المنكر المتعددة من خمر وميسر وربا ولهو وفجور وغير ذلك كلها ثمار لشجرة خبيثة شجرة العلمانية و المادية التى غزت بلادنا، وضربت جذورها في مجتمعاتنا؛ فأثمرت هذه الثمار الخبيثة، وأبعدت الشريعة عن الحكم فأفرخت وترعرعت .

فإزالة بعض هذه الثمار الخبيثة بالقوة و التدمير لن يحقق تطهير المجتمع منها؛ لأن الشجرة الخبيثة لازالت قائمة تثمر غيرها، ولكن لابد من تطهير العقول و النفوس أولاً من هذه الكلمة الخبيثة ( العلمانية وفصل الدين عن الدولة و المادية والإلحاد وغير ذلك ) وإحلال الكلمة الطيبة محلها كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن الإسلام دين ودولة، وأن شريعة الله أحق بالاتباع، وأننا كشعب مسلم لايرضى بغير شريعة الله بديلاً ومنهاجاً، حينما يتحقق ذلك تجتث الشجرة الخبيثة بكل ثمارها الخبيثة وتحل محلها الشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها  وما أجمل عبارة الأستاذ حسن الهضيبى رحمه الله حينما قال: ( أقيموا دولة الإسلام فى قلوبكم تقم على أرضكم ) .

إن إزالة بعض هذه الآثار الخبيثة قد يحد بعض الشىء من انتشارها، ولكنه لن يقضى عليها كلية، لابد من تغيير بنية المجتمع وتصحيح المفاهيم والتصورات لتطابق تعاليم الإسلام، وحينما تصلح التربة لاتسمح للشجرة الخبيثة بالنمو و البقاء .

ودليلنا على هذا التصور من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق أن أشرنا إليه أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يلجأ قبل تكوين القاعدة الإسلامية الصالحة المتينة إلى إزالة المنكر بالقوة، أومحاولة قتل أئمة الكفر كوسيلة لتغيير الواقع أو الرد على الإيذاء و التعذيب، حتى أن تحطيم الأصنام لم يتم إلا في السنة الثامنة للهجرة بعد التمكين لدعوة الله بفتح مكة، وفي السنة السابعة طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم و المسلمون حول الكعبة والأصنام كلها قائمة حولها و المشركون أخلوا لهم مكة؛ حتى يتم طوافهم، ومع ذلك لم يفكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتهاز الفرصة ويأمر المسلمين بتحطيم الأصنام؛ لأن دولة المسلمين لازالت ناشئة، ولا زالت الأصنام شوكة في الجزيرة ، ولكن بعد فتح مكة قويت شوكة المسلمين وضعفت شوكة المشركين؛ فارتفع صوت الحق { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } وحطمت الأصنام، وعلا صوت بلال بالأذان من فوق الكعبة الله أكبر.....  الله أكبر  ثم تطهرت الجزيرة بعد ذلك من الشرك والأصنام .

ولعله من المفيد هنا أن ننقل بعض عبارات الإمام الشهيد حول القوة واستعمالها في المؤتمر الخامس يقول: ( أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } و النبى صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف ) بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة، واسمع ما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إنى أعوذ بكم من الهم و الحزن، وأعوذ بك من العجز و الكسل، وأعوذ بك من الجبن و البخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) .

ثم يقول: ( فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قوياً فى كل شىء شعاره القوة فى كل شىء ؟ فالإخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء، ولابد أن يعملوا فى قوة ، ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكراً وأبعد نظراً من أن تستهويهم سطحية الأعمال و الفكر فلا يغوصوا الى أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها ، فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان ويلى ذلك قوة الوحدة والارتباط ثم بعدهما قوة الساعد و السلاح ، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعانى جميعاً ، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد و السلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء و الهلاك )

ثم يقول: ( هذه نظرة ونظرة أخرى هل أوصى الإسلام - و القوة شعاره - باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال ؟ أم حدد لذلك حدوداً، واشترط شروطاً ووجه القوة توجيهاً محدداً ؟ ) .

ويتعرض للثورة فيقول: ( و الثورة أعنف مظاهر القوة فنظر الإخوان إليها أدق وأعمق .... ثم يواصل بعد ذلك فيقول وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها .... ثم يحذر ويصارح حكومة مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولوا الأمر فى إصلاح عاجل وعلاج سريع  لهذه المشاكل فسيؤدى ذلك حتماً الى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال وإهمال مرافق الإصلاح ) .

هكذا نرى استبعاد الإمام البنا أسلوب الثورة كوسيلة للتغيير ، كما لايقر التهور والاندفاع واستعمال القوة في كل الظروف والأحوال ويتعرض الإخوان بسب ذلك إلى الاتهام بالضعف و الوهن و البطء الممل في عصر السرعة، وإن لم نشارك في تلك الأعمال التي تتسم بالعنف في أمور جزئية لاتحدث تغييراً نتهم بالقعود و التخاذل و الخور فى العزم و المداهنة وغير ذلك من الاتهامات الباطلة، وعلى هذا الاتهام يرد عليه الإمام البنا بقوله :( ويأخذ بعض الناس عليكم أنكم هادئون لا ثائرون ، مبطئون فى عصر السرعة ويحملون ذلك منكم على خور فى العزم، وضعف في الهمة ومداجاة ومواربة؛ فذكِّروا هؤلاء بقول القائل: ( رب عجلة تهب ريثاً، وأن الله تبارك وتعالى حين علَّم نبيه صلى الله عليه وسلم سبيل الدعوة إليه قال :0{ ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة  } ولم يقل له بالسرعة و الجفوة و الغلظة . ذلك أمر الله أنزله إليكم . وأفهموهم أن الإخوان إذا علموا أن السرعة ستهب لهم النجاح 99 % وأن الحكمة ستهب لهم النجاح 100 % فهم يؤثرون البطء الحكيم لإحراز النجاح الكامل .

ذلك اجتهادهم وهذا رأيهم، فإذا جاءت السرعة التى يعلم بها الإخوان أن البطء و الهدوء سيقف تقدمهم أو يأخذ من انتصارهم فسيعلمون حينئذٍ كيف يذودون عن دعوتهم، وكيف تكون الموتة الكريمة في سبيل الغاية العظيمة { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لايوقنون } .

إنكم دعاة تربية وإنما عماد انتصاركم إفهام هذا الشعب وإقناعه وإيقاظ شعوره من كل نواحيه على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام ومبادىء الإسلام ، وهذه غاية لا تدرك في أيام ولا تنال بأعوام قليلة ولكنه الجهاد الدائب و العمل المتواصل ومقارعة جيوش الجهالة والأمية و الفقر والأحقاد والأضغان وخفة الأحلام وتقطيع الأرحام وتنظيف رواسب قرون عدة سرى الفساد فيها فى كل مكان .

أفترون أو يرى الناس أن هذا أمر يسير ؟ بل إن غايتكم أوسع من هذا فإنكم تريدون من هذا الشعب أمة نموذجية؛ لتنسج على منوالها الأمم الشرقية جميعاً ، وتريدون من هذه الأمم وحدة إسلامية تأخذ بيد الإنسانية جميعاً الى تعاليم الإسلام .

هذه حدود مهمتكم التى يراها الناس بعيدة وترونها أنتم الإسلام الذى فرضه الله على عباده قريباً أم بعيداً { فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون } وذلكم  هو الشعاع الذى أشرق على قلوبكم من شمس قوله تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً } .

منقول بتصرف من كتاب – وحدة العمل الإسلامي في القطر الواحد – للأستاذ مصطفى مشهور  رحمه الله .