خليل العناني

وصلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر إلى مستوى غير مسبوق من التأزم والتعقيد إلى الدرجة التي جعلت كاتباً وباحثاً مرموقاً متخصصاً في الشأن المصري، هو الأمريكي روبرت سبرينجبورج، يصف مصر تحت حكم الجنرال عبد الفتاح السيسي، في دراسةٍ له نُشرت قبل أيام، بالدولة المتسوّلة. فحسبه، أصبحت مصر تعيش، في الأساس، على المعونات والقروض الخارجية، سواء من حلفائها الإقليميين أو الدوليين، وذلك حتى وصلت ديونها الخارجية إلى معدلات غير مسبوقة تقدّر بحوالي 137 مليار دولار. أما اللافت في الأمر، فهو إشارة سبرينغبورغ إلى أن الوضع في مصر لا يمكن أن يستمر بهذه الطريقة، وإلا ستجد مصر نفسها أمام سيناريو قاتم أشبه بما يجري في لبنان حالياً لناحية الانهيار الاقتصادي ونقص السيولة المالية الكافية لتشغيل الاقتصاد وتراجع الإنفاق الحكومي، وما قد يترتب على ذلك من توترات اجتماعية. باختصار، قد تصل مصر إلى مرحلة الإفلاس المالي والاقتصادي خلال شهور، والحل الوحيد أمام السيسي لمواجهة ذلك مزيد من الاقتراض الأجنبي، وهو مجرد حل مؤقت.

يتزامن حديث سبرينجبورج مع عدة مؤشرات أخرى حدثت على مدار الأسابيع الماضية، تعطي انطباعاً بأن مصر تنتظر مخاضاً صعباً خلال الشهور المقبلة. من ذلك مثلاً ما يتردّد عن وجود عجز في السيولة المالية لدى البنوك المصرية، وهو ما يؤثر على القدرة الاستيرادية للشركات ورجال الأعمال في بلدٍ يعتمد، في معظم احتياجاته الأساسية، على الواردات، والتي وصلت العام الماضي إلى ما قيمته 61 مليار دولار، وهو ضعف حجم الصادرات التي وصلت قيمتها إلى نحو 29.7 مليار دولار، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التي نُشرت منتصف الشهر الماضي (ديسمبر/كانون الأول). ولذلك، أعلن البنك المركزي المصري عن مجموعة من الشروط، من أجل منح سيولة طارئة للبنوك، أهمها أن يقتصر ذلك على البنوك ذات الملاءة المالية، مقابل ضمانات كافية، أهمها أن يكون سعر العائد المطبق أعلى من متوسط أسعار الإقراض السائدة في السوق، وأن يكون هذا التمويل قصير الأجل. ولعل أسباب ذلك الإجراء الذي اتخذه البنك المركزي هو الشعور بأن ثمّة أزمة مالية واقتصادية تلوح في الأفق، بسبب سياسات الاقتراض الخارجي التي يتبعها نظام السيسي بشراهة غير مسبوقة، من أجل الإنفاق على مشاريعه الكبرى.

    ويبدو أنّه ستكون لمسألة نقص السيولة لدى البنوك، والتي قد تصل، في مرحلة لاحقة، إلى مؤسسات الدولة ووزاراتها، تداعيات في ما يتعلق بالقدرة على دفع الأجور والرواتب والعلاوات للموظفين. وقد تابعنا على مدار الأيام الماضية احتجاجات نادرة داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) على تأخر صرف الحوافز والعلاوات منذ عام 2014. ولأول مرة نرى تجمعات واحتجاجات رافضة لاستمرار الوضع على ما هو عليه، من أقرب الشرائح الداعمة والمساندة للنظام الحالي، أو ما يعرفون تقليديا بـ "حزب الكنبة". ومن غير المستبعد أن تتسع رقعة الاحتجاجات، كي تصل إلى فئات وقطاعات أخرى أكثر احتياجاً من الناحيتين، الاقتصادية والاجتماعية.

في الوقت نفسه، تساهم سياسات الهدم والبناء العشوائية التي يقوم بها حلفاء السيسي والمنتفعون من سياساته الاقتصادية، في سكب مزيد من الزيت على النار، وزيادة نسبة الغضب والاحتقان والاغتراب لدى فئاتٍ كانت، في وقت من الأوقات، من أشدّ داعمي السيسي ونظامه، فعمليات الإخلاء وهدم المنازل القسري لم تعد مجرّد سياسة طارئة تجرى على هوامش البلاد كما حدث، ولا يزال، في مناطق شبه جزيرة سيناء، وإنما وصل الأمر إلى المناطق الحضرية وفي قلب العاصمة المصرية، مثلما يحدث حالياً في أحياء مدينة نصر (الحيان السادس والسابع). وقد شاهدنا رفض الأهالي هذا الأمر واحتجاجهم عليه، عبر مقاطع فيديو، كان يتفاوض خلالها مسئولو الدولة مع سكان تلك المناطق الذين يرفضون ترك منازلهم.

إذا وضعنا هذه المشاهد إلى جنب بعضها بعضا، تكتمل لدينا صورة قاتمة لدولة مهلهلة، ونظام شرس سياسياً وأمنياً، ولكنه عاجز اقتصادياً واجتماعياً عن الوفاء باحتياجات مواطنيه الأساسية. في الوقت نفسه، ثمّة تراجع لا تخطئه العين في الكتل المؤيدة للنظام، والتي ساندته طوال السنوات التالية مباشرة للانقلاب، ولكنها بدأت تنفضّ عنه، أخيرا، نتيجة سوء أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتراجعها.

لم تقم ثورة يناير بين عشية وضحاها، لكنها كانت أشبه بنهر تجمّعت زخّاته ومياهه من مظالم اقتصادية واجتماعية ومآس سياسية وإنسانية، أدّت، في النهاية، إلى الانفجار والخروج الكبير للمصريين من مختلف الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية. لذلك، بعد مرور تسع سنوات عجاف على انقلاب الثالث من يوليو (2013)، لم يعد السؤال هو: هل ستنفجر الأوضاع في مصر أم لا، لكن متى سيحدث ذلك؟ وهو سؤال سوف تجيب عنه الأسابيع والشهور المقبلة.

المصدر: العربي الجديد