تاسعاً: اختيارات الجماعة الفقهية لا خيرة للأفراد فيها

إن ما يحكم الجماعة سواء نظامها الداخلي، ولائحتها التنفيذية وأمورها التنظيمية منذ نشأتها ونظرتها للأمور المختلف فيها فقهياً، بيّن الإمام البنا أن هذه الأمور تخص الجماعة دون غيرها، لأنها مصالحها المعتبرة، وليست من القطعيات يلتزم بها غيرنا شرعاً، ولا يستطيع أن يخالفها أو يجتهد فيها، ولكن لها وجوه، فمن خالف الجماعة بوجه فقهي معتبر أو أخذ به لا إثم عليه. أما من هم جنود فيها وبايعوا قادتها فواجب عليهم الالتزام والسمع والطاعة في المنشط والمكره بكل ما تأمر به الجماعة أو تضع من نظم وإداريات؛ فإذا اختارت الجماعة نظماً وقواعد ولوائح تضبط حركتها لتحقيق أهدافها ارتضتها الجماعة وأقرتها، وجب احترامها والعمل بها كنظام الأسر والاختيارات الفقهية التي تراها الجماعة؛ لأنها أصبحت من ثوابتها، أما المسائل الفقهية التعبدية المختلف فيها والتي قال فيها الإمام النووي: "المختلف فيه لا إنكاره فيه". فإن كانت هذه المسائل فيما يتصل بالعبادات والشعائر الشخصية، فليس للجماعة أن تتدخل فيها، فهذه أمور تعبدية فردية لكل فرد أن يختار ما ترتاح إليه نفسه، ويطمئن إليه قلبه، ويقتنع به عقله من آراء وأحكام في المذاهب المعتبرة، وله أن يتبع إماماً من الأئمة أصحاب المذاهب الإسلامية، فهذا حنبلي وذلك شافعي وثالث مالكي ورابع حنفي، ما دام هذا الحكم لا يتصل بحركة الجماعة ولكن بعباداته الفردية، وعلى هذا فإن الجماعة إذا اختارت وجهاً من الوجوه الفقهية في مسألة من المسائل فليس للفرد أن يخرج عليه إلى رأي فقهي آخر مادام يتصل بحركتها، فمثلاً إذا اختارت الجماعة الرأي الفقهي الذي يقول: إن الشورى ملزمة فليس لأي فرد أن يقول: سآخذ بالرأي الآخر الذي يقول إن الشورى معلمة، فتضطرب الأمور، ولن يحسم الخلاف أبداً داخل الجماعة فيتنازع أفرادها ويفشلون، وتذهب ريحهم، وهيهات أن يجتمعوا على رأي واحد.

فاختيار الجماعة الفقهي بأن الشورى ملزمة من الثوابت التي لا مناص منها، ولا رجوع عنها لأن الشورى الملزمة هنا صارت جزءاً من النظام الملزم الذي يحسم الخلاف.

يقول الإمام البنا: "ورأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوهاً عدة، وفي المصالح المرسلة معمول به مالم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات. والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد" أما في الأمور التعبدية الشخصية فيقول ابن تيمية: "إن ما فيه خلاف –وهو المتغير المجتهد فيه- إن كان الحكم المختلف يخالف سنة أو إجماعاً وجب الإنكار عليه، وكذلك يجب الإنكار على العامل به، إن كانت المسألة ليست فيها سنة ولا إجماع فالاجتهاد فيه مذاهب فإنه لا ينكر على المخالف سواء كان مجتهداً أو مقلداً. وكل مسلم لا يستطيع أن يخالف ذلك فهي من الأمور الثابتة شرعاً سواء للفرد أو للجماعة.

ويحكمنا في كل الأحوال آداب الاختلاف التي منها:

  1. عدم التعصب للرأي لكسب الأنصار، والتعصب غير التمسك والالتزام.
  2. لا نرضى لجماعة أو فرد أن يدعي العصمة فيما يقول من أمور الاجتهاد.
  3. نبحث عن الحق سواء ظهر على لساني أو لسان غيري. يقول الإمام الشافعي: ما ناظرت

أحداً إلا رجوت الله أن يظهر الحق على لسانه.

  1. لا نبحث عن سقطات الآخرين لننفر الناس منهم، فليس هذا بخلق المسلم.
  2. وضوح أن الاتفاق على أصول المنهج لا يعني الاتفاق على فروعه.
  3. تفسير ما يقوله المخالف لصالحه وأن نجمع كل ما قاله في المسألة الواحدة.

يقول ابن تيمية عن الذي قال في زمانه: من أحبه الله لم يضره الذنب –هذا قول المرجئة- ولكن ابن تيمية فسرها لصالح قائلها، وقال: يقصد أنه من أحبه الله وفقه للتوبة.

  1. نحن نقدر العلماء ولا نقدسهم، وهفواتهم تنغمر في حسناتهم وصدق القائل: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه.

ومن المواقف المبدئية وليست التكتيكية الحركية كما يدعي أعداء الإسلام وأعداء الدعوة والمرجفون بيننا، موقفنا الثابت المبدئي والذي أعلنته الجماعة مثل:

  • موقفنا من العنف والإرهاب.
  • موقفنا من الأقباط.
  • موقفنا من الشورى.
  • موقفنا من المرأة.
  • موقفنا من المشاركة في الحكم.

كل تلك المواقف من الثوابت التي لا تتغير ولا تتبدل، ذلك أن صاحب الفكرة يتحمل من أجل ثوابته الكثير، لا يبغي مصلحة أو منفعة بل يقوم وهو يتمسك بها: لا أسألكم عليه أجراً، ولا نريد منكم جزاء ولا شكوراً، وفي نفس الوقت لا يساوم عليها ولا يتنازل عنها، ويقول: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات-  للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.