فتحي السيد 

في هذا الزمان الذي تزاحمت فيه أعباء الحياة، فانشغل كل منا بنفسه، ونسي حتى أقرب الناس إليه من ذوي  الأرحام وأولي القربي أن يتفقدهم، أو يسأل عن أحوالهم؛ فتقطعت الأواصر، وانفكت الصلات.

مع أن الإسلام يهدِف إلى بناءِ مجتمعٍ إسلاميٍّ، متراحمٍ، متعاطِف، تسودُه المودة والإخاء، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء، والأسرةُ وِحْدةُ المجتمع، تسعَد بتقوى الله ورعايةِ الرّحِم، اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها، وتثبيتِ بُنيانها؛ فجاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ الوالدين، قال جلّ وعلا {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى} وقُرِنَت مع إفرادِ الله بالعبادةِ والصّلاةِ والزّكاة، فعن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال: " تعبد الله ولا تشرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاةَ، وتصِلُ الرّحم " [ متفق عليه ]

وقد أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها، قال سبحانه { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى } ودَعا إلى صِلتها نبيُّنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم في مَطلعِ نُبوّته، قال عَمْرُو بنُ عبَسَة : قدمتُ مكّةَ أوّلَ بعثةِ النبيّ فدخلتُ عليه فقلت: ما أنت؟ قال: " نبيّ " قلت: وما نبيّ ؟ قال: " أرسَلَني الله" قلت: بِمَ أرسلك ؟ قال: " بصلةِ الأرحام، وكسرِ الأوثان، وأن يُوحَّد الله " [ رواه الحاكم ] .

وسأل هِرَقل أبا سفيانٍ عن النبيّ ما يقول لكم ؟ قال: يقول: " اعبُدوا الله وحدَه ولا تشركوا به شيئًا " ويأمرنا بالصّلاة، والصِّدق، والعَفاف، والصّلَة. [ متفق عليه ] وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه إلى المدينة، قال عبد الله بن سلام : لمّا قدم النبيّ المدينةَ انجفلَ الناس إليه ـ أي: ذهَبوا إليه ـ فكان أوّلَ شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال: " يا أيّها الناس، أفشوا السّلام، وأطعِموا الطّعام، وصِلوا الأرحامَ، وصَلّوا بالليل والنّاس نِيام، تدخلوا الجنّة بسلام " [ رواه الترمذيّ وابن ماجه ] وهي وصيّة النبيّ قال أبو ذر: أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرَت [ رواه الطبراني ] فصِلةُ ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان " من كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحِمَه " [ متفق عليه ] وقد ذمّ الله كفّارَ قريش على قطيعةِ رحمِهم فقال عنهم { لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً  }

لقد خلق الله الرحمَ ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها، ومَن وصَله الرحيمُ وصلَه كلُّ خير ولم يقطَعه أحد ، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ وعاشَ في كَمَد { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } والله يُبقي أثرَ واصلِ الرّحم طويلاً، فلا يضمحِلّ سريعًا كما يضمحِلّ أثر قاطعِ الرّحم، قال النبيّ عليه الصلاة والسلام " قال الله للرّحم : أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك " [ متفق عليه ] "والرحمُ معلّقة بالعرش تقول : مَن وصلني [ وصله الله ] ومن قطعني [ قطعه الله ] " .

صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر ، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا، لمّا نزل على المصطفى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  } رجع بها ترجِفُ بوادرُه حتّى دخل على خديجةَ فقال: " زمِّلوني " فأخبرَها الخبَر ، وقال " قد خشيتُ على نفسِي " فقالت له : كلاّ والله ، لا يخزيكَ الله أبدًا ؛ إنّك لتصلُ الرّحم ، وتحمِل الكَلَّ ، وتكسِب المعدومَ ، وتَقري الضّيف [ رواه البخاري ] .

صلةِ الرّحم أُسُّ بِناء الحياة، محبّةُ الأهل ، وبَسطُ الرّزق ، وبركةُ العُمر ، يقول: " صِلة الرّحم محبّةٌ في الأهل، مثراة في المالِ، منسَأَة في الأثر" [ رواه أحمد ] وعند البخاريّ ومسلم " من أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له في أثَره فليصِل رحمَه " قال ابن التّين : " صلةُ الرّحم تكون سببًا للتوفيقِ، والطاعةِ، والصيانةِ عن المعصيةِ، فيبقى بعدَه الذكرُ الجميل فكأنّه لم يمُت " .

صلة الحرم عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات ، يقول عمرو بن دينار: "ما مِن خَطْوةٍ بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خَطوةٍ إلى ذي الرّحم " ثوابُها معجَّل في الدنيا ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة ، قال " ليس شيء أُطِيعَ اللهُ فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم " [ رواه البيهقيّ ] والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة ، يقول عليه الصلاة والسلام " أهلُ الجنة ثلاثة : ذو سلطانٍ مُقسط ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب بكلّ ذي قُربى ومسلم ، ورجلٌ غنيّ عفيف متصدِّق " [ رواه مسلم ] .

صلة الرحم تقوَي المودَّة، وتزيدُ المحبَّة، وتتوثَّق عُرى القرابةِ، وتزول العداوةُ والشّحناء ، فيها التعارفُ والتواصلُ والشعور بالسّعادة .

صِلة الرّحم والإحسانُ إلى الأقربين طُرقُها ميسَّرة وأبوابها متعدِّدة ، فمِن بشاشةٍ عند اللّقاء ولينٍ في المُعاملة، إلى طيبٍ في القول وطلاقةٍ في الوجه، زياراتٌ وصِلات، مشاركةٌ في الأفراح ومواساةٌ في الأتراح، وإحسانٌ إلى المحتاج، وبذلٌ للمعروف، نصحُهم والنّصحُ لهم، مساندةُ مكروبِهم وعيادةُ مريضهم ، الصفحُ عن عثراتهم، وترك مُضارّتهم، والمعنى الجامِع لذلك كلِّه : إيصالُ ما أمكَن من الخير، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ .

صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس، وسَعَةِ الأفُق، وطيبِ المنبَتِ، وحُسن الوَفاء، ولهذا قيل: مَن لم يَصْلُحْ لأهلِه لم يَصْلُحْ لك، ومَن لم يذُبَّ عنهم لم يذبَّ عنك ، يُقْدِم عليها أولو التّذكرةِ وأصحابِ البصيرة { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} .

 الأرحام أمَرَ الله بالرّأفة بهم كما نرأَف بالمِسكين، قال عزّ وجلّ { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } حقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والفقراء ، قال سبحانَه {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} والسخاءُ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ العالمين، قال عليه الصّلاة والسّلام " الصدقةُ على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصِلة " [ رواه الترمذي ] وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة، تصدّق أبو طلحة رضي الله عنه ببستانِه، فقال له النبيّ " أرَى أن تجعلَها في الأقربين " فقسمَها أبو طلحة على أقاربِه وبني عمّه [ متفق عليه ] فالباذلُ لهم سخيُّ النّفس كريم الشّيَم ، يقول الشعبيّ رحمه الله " ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه " .

الجارُ من ذوي الأرحام أخصُّ بالرّعاية والعنايةِ مِن غيره، قال سبحانه {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} فدعوتُهم، وتوجيهُهم، وإرشادهم ونُصحهم ألزمُ من غيرِهم، قال جلّ وعلا {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به على أن لا يكونَ في التّقديمِ بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين، قال سبحانه {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } .

 إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا، ولك في يوسف القدوة والأسوة ، فقد فعل إخوةُ يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا ، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل ، ولم يوبِّخهم ، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم ، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فغُضَّ عن الهفواتِ ، واعفُ عن الزّلاّت ، وأقِلِ العثرات ، تجْنِ الودَّ والإخاء واللينَ والصفاء ، وتتحقَّقُ فيك الشهامةُ والوفاء ، وداوِم على صِلة الرّحم ولو قطعوا ، وبادِر بالمغفرة وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم في قطعِ رحمِك منهم ، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء ، وجانبْ الشحَّ فإنّه من أسباب القطيعة ، قال عليه الصلاة والسلام " إيّاكم والشّحَّ ؛ فإنّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم ؛ أمرهم بالبُخل فبخِلوا، وأمرهم بالظّلم فظلموا ، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا " [ متفق عليه ] .

واعلم أنّ مقابلةَ الإحسانِ بالإحسان مكافأةٌ ومجازاة، ولكن الواصلَ من يَتفضَّلُ على صاحبِه، ولا يُتَفضّلُ عليه، قال عليه الصلاة والسلام " ليسَ الواصلُ بالمكافئ ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قُطعَت رحمُه وصَلها " [ رواه البخاري ] قيل لعبد الله بن مُحَيريز : ما حقّ الرّحم ؟ قال: " تُستَقبَل إذا أقبَلت، وتُتْبَع إذا أدبَرت " وجاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: يا رسولَ الله ، إنّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويُسيئون إليّ، وأَحْلُمُ عليهم ويجهَلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام " لئن كان كما تقول فكأنّما تُسِفُّهم المَلّ ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك " [ رواه مسلم ] .

الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم ، وقريبُك لا ينسَاك في البُعد، عِزّهُ عزٌّ لك، وذُلّه ذُلٌّ لك، ومعاداة الأقاربِ شرّ وبلاء  الرّابح فيها خاسِر، والمنتصِر مهزوم ، وقطيعةُ الرّحم مِن كبائر الذّنوب، متوَعَّدٌ صاحبُها باللّعنةِ والثبور ، قال تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} فالتدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ النِّعمة، وسوءِ العاقبةِ، وتعجيلِ العقوبة، قال عليه الصلاة والسلام: " لا يدخل الجنّةَ قاطع " [ رواه البخاري ] فعقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة، يقول النبيّ " ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّلَ الله لصاحبِه العقوبةَ في الدّنيا مع ما يدَّخره له في الآخرة من البغي ـ أي : الظلم ـ وقطيعةِ الرحم " [ رواه الترمذي ].

قطيعة الرحم سببٌ للذِلّة والصّغار والضّعفِ والتفرّق، مجلبةٌ للهمّ والغمّ ، فقاطعُ الرّحم لا يثبُت على مؤاخاة ، ولا يُرجَى منه وفاء ، ولا صِدقٌ في الإخاء ، يشعر بقطيعةِ الله له ، ملاحَقٌ بنظراتِ الاحتِقار ، مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل، لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه : ( أُحرِّجُ على كلِّ قاطعِ رحمٍ لَمَا قام من عندنا )، وكان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح فقال ( أُنْشِدُ الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا ؛ وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَةٌ ـ أي: مغلقة ـ دونَ قاطِع الرّحم ) ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة، وليعفُ وليصفح {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وإنّ لحُسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة، والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى، فإنّ مَن حَفِظَ لسانَه أراح نفسَه، وللهديّةِ أثرٌ في اجتلابِ المحبّة، وإثباتِ المودّة، وإذهابِ الضغائن وتأليفِ القلوب .