إنَّ الحب والإخاء أساس بناء هذه الأمة، وسر وحدتها وقوتها ونهضتها، ولهذا كان هذا النداء الآلهي إلى أبناء الإسلام فيقول:

﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران:103)، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: من الآية 71).

ويقول النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه"، "ومثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، "والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، "و كونوا عباد الله إخوانا".

ولقد فطن الإمام حسن البنا- رحمه الله- إلى رابطة الأخوة وما فيها من معانِِ وواجبات فكان من أقواله:

"كذلك فهم المسلمون الأولون- رضوان الله عليهم- من الإسلام هذا المعنى الأخوي، وأملت عليهم عقيدتهم في دين الله أخلد عواطف الحب والتآلف، وأنبل مظاهر الأخوة والتعارف، فكانوا رجلاً واحدًا، وقلبًا واحدًا ويدًا، واحدة، حتى امتنَّ الله بذلك في كتابِهِ فقال تبارك وتعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (لأنفال: من الآية 63).

ويوم واجه المسلمون العالم كله صفًا واحدًا وقلبًا واحدًا في ظل هذه الأخوة الصادقة الحقة، انهزم أمامهم الروم والفرس على السواء، وكونوا إمبراطورية ذات علم وحضارة، وقوة وإشراق، ويوم غفلوا عن سرِّ قوتهم، ولم يأخذوا بهدى كتابهم: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (لأنفال: من الآية 46)، ودبَّ إليهم داء الأمم من قبلهم من تغليب المصالح المادية الزائلة على الأخوة الإيمانية الباقية.. تمزقت هذه الأمة وصارت إلى ما آلت إليه الآن.. ولا بد أن نلجأ من جديدٍ إلى ما فرضه الإسلام على أبناءه منذ أول يوم، حين جعل الوحدة معنى من معاني الإيمان،، وبالوحدة والتجمع، نستطيع أن نبنى هذه الأمة ونعمل على نهضتها كما كانت من قبل.

ومن روابط الأخوة والوحدة التي ذكرها الإمام البنا: "..أن الإخوان المسلمين بالنسبة إليهم قسمان: قسم اعتقد ما اعتقدوه من دين الله وكتابه وآمن ببعثه ورسوله وما جاء به، وهؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط، رابطة العقيدة وهي عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض، فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نحنُّ إليهم ونعمل في سبيلهم ونذود عن حماهم  ونفتديهم بالنفس والمال، في أي أرض كانوا ومن أية سلالة انحدروا، وقوم ليسوا كذلك ولم نرتبط معهم بعد بهذا الرباط فهؤلاء نسالمهم ما سالمونا ونحب لهم الخير ما كفوا عدوانهم عنا, ونعتقد أن بيننا وبينهم رابطة هي رابطة الدعوة, علينا أن ندعوهم إلى ما نحن عليه لأنه خير الإنسانية كلها, وأن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدد لها الدين نفسه من سبل ووسائل، فمَن اعتدى علينا منهم رددنا عدوانه بأفضل ما يرد به عنوان المعتدين".

ويقول الإمام البنا: وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، وهي أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة: قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب: سلامة الصدر، وأعلاه: مرتبة الإيثار، ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: من الآية 9).

والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، "وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، "والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا".. ﴿الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة:71)  وهكذا يجب أن نكون.

وعلى هذا درج أبناء الإسلام وخص الرعيل الأول ممن وجدت بين نفوسهم الأخوة الإيمانية، لا فرق بين مهاجرهم وأنصارهم، ولا بين مكيّهم ويمنيّهم، حتى أثنى الرسول على الأشعريين من أهل اليمن(هم قبيلة باليمن، منهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه) .بقوله- صلى الله عليه وسلم- ما معناه: "نعم القوم الأشعريون إذا جهدوا في سفر أو حضر جمعوا ما عندهم فوضعوه في مزادتهم ثم قسموه بينهم بالسوية".

 ويقول الإمام البنا: "ولقد ظلت هذه الأوامر الربانية والتوجيهات المحمدية بعد الصدر الأول كلامًا على ألسنة المسلمين، وخيالاً في نفوسهم، حتى جئتم معشر الإخوان المتعارفين، تحاولون تطبيقها في مجتمعكم، وتريدون تأليف الأمة، المتآخية بروح الله وأخوة الإسلام من جديد، فهنيئًا لكم إن كنتم صادقين، وأرجو أن تكونوا كذلك، والله ولي توفيقكم".

"واذكروا جيدًا أيها الإخوان.. أنَّ كل شعبة من شعبكم وحدة متصلة الروح مؤتلفة القلوب، جمعتها الغاية السامية على هدفٍ واحدٍ، وأمل واحد، وألم واحد، وجهاد واحد، وأنَّ هذه الوحدات المؤتلفة يرتبط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض، ويحن بعضها إلى بعض، ويقدر بعضها بعضًا، وتشعر كل أمة منها أنها لا تتم إلا بأخوتها ولا تكمل أخوتها إلا بها، كلبنات البناء المرصوص يشد بعضه بعضًا، وأنها جميعًا ترتبط بمركزها العام أوثق ارتباط وأسماه وأعلاه، روحيًّا وإداريًّا وعمليًّا ومظهريًّا، وتدور حوله كما تدور المجموعة المتماسكة من الكواكب المنيرة حول محورها الجاذب وأصلها الثابت، لتحقق بذلك قول الله تبارك وتعالي ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية10)".

وخلاصة ذلك جملتان: إيمان وعمل، ومحبة وإخاء.. ماذا فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تركيز دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الوحدة وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لا بد أن تظهر كلمتها وتنتصر دعوتها وإن ناوأها أهل الأرض جميعًا، وماذا فعل الدعاة من قبل ومن بعد أكثر من هذا؟ ينادون بالفكرة ويوضحونها ويدعون الناس إليها فيؤمنون بها ويعملون لتحقيقها ويجتمعون عليها ويزدادون عددًا فتزداد الفكرة بهم ظهورًا حتى تبلغ مداها وتبتلع ما سواها، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

ولقد أسس الإمام البنا نظام الأسر، وحدد لها أركانا ثلاثة التعارف والتفاهم والتكافل فيقول: "يحرص الإسلام على تكوين أسر من أهله يوجههم إلى المثل العليا ويقوي روابطهم، ويرفع أخوتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات، فاحرص يا أخي أن تكون لبنة صالحة في هذا البناء الإسلام".

(التعارف: هو أول هذه الأركان، فتعارفوا وتحابوا بروح الله تعالى، واستشعروا معنى الأخوة الصحيحة الكاملة فيما بينكم، واجتهدوا ألا يُعكِّر صفو علاقتكم شيء ولا يسلمه "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد").

ولقد حدد الإمام البنا الوسائل والواجبات التي تحقق هذا الحب والإخاء فيقول: (يعرض كل أخ مشاكله ويشاركه إخوانه في دراسة حلولها في جوٍ من صدقِ الأخوة وإخلاص التوجه إلى الله, وفي ذلك توطيد للثقة، وتوثيق للرابطة "والمؤمن مرآة أخيه"، وحتى يتحقق فينا شيء من مأثور قوله عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

يُوصي الإمام البنا إخوانه فيقول لهم:   أيها الإخوان..

- وتحابوا فيما بينكم، واحرصوا كل الحرص على رابطتكم فهي سرُّ قوتكم وعماد نجاحكم، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين. 

 واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره، فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم. 

- وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده، والفرصة آتية لا ريب فيها، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم:4-5).

وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين، وأحيانا حياة الأعزاء السعداء وأماتنا موت المجاهدين والشهداء، إنه نعم المولى ونعم النصير.

واحرصوا على أن تكونوا صادقين لا تتجاوزون الحقيقة، وأن تكون دعايتكم في حدود الأدب الكامل والخلق الفاضل والحرص التام على جمع القلوب وتأليف الأرواح، واستشعروا كلما ظهرت دعوتكم أن الفضل في ذلك كله لله: ﴿بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الحجرات: من الآية 17).

ولقد سجل الإمام البنا معاني الحب والوحدة والقوة في هذه الكلمات المعبرة:

أيها الإخوان: لا أكتمكم أني مزهوٌّ بهذه الوحدة الإخوانية الصادقة، فخورٌ بهذا الارتباط الرباني القوي المتين، عظيمُ الأمل في المستقبل، ما دمتم كذلك أخوةً في الله متحابين متعاونين، فاحرصوا على هذه الوحدة فإنها سلاحكم وعدتكم.

فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعةٌ بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا.

أيها الإخوان المسلمون.. لقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم على دعائم قوية من الإيمان بالله، والزهادة في متعة الحياة الفانية وإيثار دار الخلود، والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق، وحب الموت في سبيل الله والسير في ذلك كله على هدي القرآن الكريم.

فعلى هذه الدعائم القوية أسِّسوا نهضتَكم وأصلحوا نفوسَكم وركِّزوا دعوتَكم وقودوا الأمة إلى الخير.. ﴿وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: 35).

فجدِّدوا أيها الشباب إيمانكم، وحددوا غاياتكم وأهدافكم، وأول القوة الإيمان، ونتيجة هذا الإيمان الوحدة، وعاقبة الوحدة النصر المؤزر المبين. فآمنوا وتآخوا واعلموا وترقبوا بعد ذلك النصر.. وبشر المؤمنين.