إن من الإنصاف القول بأن تساقط الأفراد على طريق الدعوة إنما يعود إلى أسباب متعددة وليس إلى سبب واحد الفصل الثاني - أسباب التساقط

فقد يكون السبب من الحركة نفسها .

وقد يكون السبب من الفرد نفسه ..

وقد يكون السبب من الظروف الضاغطة ..

والآن لنأخذ كل جانب من هذه الجوانب على حدة لنحدد مسئولية وأثر كل منها في حدوث ظاهرة التساقط تلك

أولاً : أسباب تتعلق بالحركة

كثيرة هي الأسباب التي تساعد على تساقط الأفراد من الدعوة والتي تقع مسئوليتها على عاتق الحركة نفسها والتنظيم نفسه من ذلك :

1- ضعف الجانب التربوي: فالجانب التربوي قد يأخذ من الحركة حيزاً محدوداً في حين تطغى الجوانب الأخرى الإدارية والتنظيمية والسياسية على كل شئ .

ويبرز هذا بشكل واضح وجلى ودائم في حياة القادة والإداريين والذين يتولون الشئون السياسية والاجتماعية مما يجعلهم مقطوعي الصلة بالتربية والشئون التربوية نظرياً وعملياً وبالتالي يجل علاقاتهم واجتماعاتهم وممارساتهم جافة خالية من طلاوة الربانية وعذوبة الروحانية ..

والأجواء الجامدة الجافة تبعث دائماً على التوتر والحساسية بعكس الأجواء الروحية التربوية الرطبة بذكر الله ورقابته .

والمسئول السياسي أو الإداري أو الاجتماعي وغيره وهو على ثغرة مسئوليته قد يظن أنه بلغ سنام الأمر وحقق ذروة النصر من غير أن يحس بالخواء النفسي والروحي والانكفاء التربوي ومن غير أن يشعر بالتآكل الإيماني في حياته.. وهو إن لم يفطن لذلك ويبادر لاستنقاذ نفسه فإنه ساقط لا محالة.

فالإيمان كما هو معروف يزيد وينقص بدليل قوله تعالى: { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } الفتح :4] وقوله تعالى { وزدناهم هدى } الكهف : 13] وقوله { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } مريم :76] وقوله { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } محمد “17] وقوله { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } المدثر : 31 ].

ولقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي (إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكمله لم يستكمل الإيمان وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم )).

فتعهد الأفراد بالتربية جنوداً وقياديين يجب أن يكون شغل الحركة الشاغل كائناً ما كان الظروف من حولها .. بل إن الظروف السيئة التي تمر بالدعوة أحياناً تفرض المزيد من الاهتمام التربوي وليس العكس لأن احتياج الناس إلى الرعاية والاهتمام والتذكير إنما يكون أكبر في الظروف الاستثنائية ..

إن منطقاً يجب رفضه بالكلية وهو منطق اعتبار بعض الأشخاص فوق التربية أو بدون حاجة إلى التربية أو تجاوزوا مرحلة التربية .. وهذا المنطق هو الذي يورد هؤلاء الناس موارد التهلكة ويتسبب في إسقاطهم أو سقوطهم ..

إن هذا المنطق يتناقض بالكلية مع الإسلام وفلسفة التربوية التي تعتبر الإنسان في امتحان دائم مع دعوته وفي اختبار مستمر مع دينه .. والتي تفرض عليه دوام العناية بنفسه والرقابة لربه والتعهد لسلوكه والتنمية لإيمانه فقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن والفتن تعرض على القلوب كالحصير عوداً عوداً والمؤمن يخشى دائماً سوء المنقلب ويسأل الله تعالى حسن الختام ..

فالحركة التي تضعف قدرتها التربوية عن متابعة أفرادها كل أفرادها بما يحتاجون من تعهد وتربية ستصاب بنيتها ويصاب جسمها بقدر ضعفها كما ستكون مناعتها بنسبة ما يتوفر لديها من اهتمامات وممارسات تربوية .. فالمناهج التربوية يجب أن تكون دائماً موضع دراسة وتعديل بما يتوافق مع الاحتياجات والظروف التي تمر بها الحركة ...

والنشاط التربوي يجب أن لا يتوقف أو ينقطع بسبب ظرف طارئ أو لحساب جانب من جوانب العمل ...

وأفراد الحركة جميعاً وبدون استثناء يجب أن تطالبهم المتابعة التربوية بشكل أو آخر ..

وارتباط الفرد بالحركة يجب أن يكون قائماً على أساس من ارتباطه بالله وبالإسلام وإن الحركة والتنظيم إنما هما وسيلة لا غاية .. وهي وسيلة لتحقيق أمر الله وكسب رضاه وليست وسيلة لتحقيق مصالح أفرادها والعاملين فيها ...

أذكر أن لقاء جمعني بأحد الأعضاء البارزين في حركة إسلامية .. وكان متهماً بحب الأضواء والبروز الشخصي ومن خلال المناقشة اكتشفت شرخاً مخيفاً في تربيته وبصمة سيئة في تكوينه حين ابتدرني قائلاً (أنا لا أنكر أن عندي تطلعات شخصية وهل يمنع الإسلام من ذلك ) ثم أردف قائلاً (كل فرد في الدعوة نده تطلعات أو ليست عندك تطلعات ؟) .

قلت له مستغرباً (أنا لا أفهم الإسلام هكذا .. وإنما أفهمه استخلاصاً لنا من كل تطلعات الشخصية وإنكاراً لذواتنا أمام أهداف الإسلام العلية .. ) ثم أكملت قائلاً (إن كان لي من تطلع فأن أرى راية الإسلام منتصرة خفاقة ) قال: ( وما المانع من أن نحقق الأمرين معاً تطلعاتنا وتطلعات الإسلام ؟) قلت: (إن ذلك يذكرني بالأعرابي الذي جاء محمداً صلى الله عليه وسلم يعرض عليه أمره ويقول : ((إنني أنزل المنزل أريد وجه الله وأن يرى موقعي )) فنزل فيه قول الله تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل ملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } الكهف 11. ].

روى عن طاووس قال: قال رجل: يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني ؟ فلم يرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } .

وجاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه .. أرأيت رجلاً يصلى يبتغى وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم يبتغى وجه الله ويحب أن يحمد ويتصدق يبتغى وجه الله ويحب ن يحمد ويحج يبتغى وجه لله ويحب أن يحمد ؟ فقال عبادة: ليس له شئ .. إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه ..

وروى الإمام أحمد عن شداد بن أوس رضى الله عنه أنه بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكني سمعت رسول لله يقول : أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية )) قلت : يا رسول الله : أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : (( نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يراءون بأعمالهم والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه )).

وعن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعرض أعمال بنى آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله : ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيراً فيقول : إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي )).

وللحديث بقية – منقول بتصرف من كتاب – المتساقطون على الطريق  كيف .... ولماذا ؟ - للأستاذ فتحي يكن رحمه الله