إن ظاهرة التساقط لم تقتصر على عصر أو زمن معين؛ فالثبات والزلة أمران يتعرض لهما كل مسلم، وخاصة الدعاة، بل لقد لحق هذا الأمر بعضا من من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

* ظاهرة التساقط في عهد النبوة:

لم تبرز ظاهرة التساقط في عهد النبوة على نحو من بروزها في العصر الحديث ..

وجل ما كان يحدث في تلك المرحلة سقوط أشخاص في أخطاء كان بعضها جسيماً بدون شك.. وطبيعة العمل في تلك المرحلة والتي جعلت الناس أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما : خيار الإسلام أو خيار الجاهلية كانت تحول ـ ولو خوفاً من عقوبة الارتداد ـ دون الخروج على الصف الإسلامي.

أما اليوم فلاعتبارات عديدة أهمها أن الحركة الإسلامية لا تعتبر هي جماعة المسلمين بمعنى أن الخارج عليها خارج من الإسلام مرتد عن الدين وإنما اعتبرت جماعة من المسلمين ليس إلا . وبالتالي فإن المسلمين خارج إطارها التنظيمي لا يعتبرون مرتدين .

وإنهم ماداموا كذلك فإن الخروج عليها لا يعتبر ارتداداً عن الدين وإنما هو ارتداد عن الجماعة والتنظيم ..

هذا التصور لطبيعة موقع الحركة الإسلامية اليوم من المسلمين يساعد إلى حد كبير على التفلت من صفوفها حيث لا يشعر المتفلت أنه بعمله هذا قد ارتكب معصية وإنما وقد يجد البعض تشجيعاً ودعماً بل إكباراً وإجلالً في البعض الأوساط الإسلامية لما فعل .

وسبب آخر كان يساعد على سلامة الصف في الماضي وهو موقف الإنكار من المسلمين لمن يحاول أن يشق صفوفهم أو يبدو منه ما يعتبر مخالفة لقيادتهم أو سياستهم أو جماعتهم ..

* المتخلفون عن غزوة تبوك :

فيوم تخلف النفر الثلاثة عن غزوة (تبوك) قاطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاطعهم المسلمون جميعاً، وفيما يلي الحادثة كما رواها ابن هشام في سيرته :

[ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لا تكلمن أحداً من هؤلاء الثلاثة وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله ولا رسوله واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة .

(حديث كعب عن تخلفه ):

قال ابن إسحاق: فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك إن أباه عبد الله وكان قائد أبيه حين أصيب بصره قال :

سمعت أبى كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وحديث صاحبيه قال: ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير أنى كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدا تخلف عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وحين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها قال: كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ووالله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً واستقبل غزو عدو كثير فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يعنى بذلك الديوان يقول:  يجمعهم ديوان مكتوب .

قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفي له ذلك ما لم ينزل فيه وحي من الله وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال فالناس إليها صعر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه وجعلت أغدو لا تجهز معهم فأرجع ولم أتقضى حاجة فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس بالجد  .

فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً فقلت: أتجهز بعده بيوم أو بيومين ثم ألحق بهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفرط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم أفعل وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت يحزنني أنى لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بنى سلمة : يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيراً فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرنى بثي فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً وأستعين على ذلك كل ذي رأى من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عنى الباطل وعرفت أنى لا أنجو منه إلا بالصدق فأجمعت أن أصدقه وصبح رسول الله صلى الله عله وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت فسلّمت عليه فتسم تبسم المغضب ثم قال لي: تعاله فجئت أمشى حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟ قال: قلت : إني يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأحرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كذبا لترضين عنى، وليوشكن الله أن يسخطك علىّ، ولئن  حدثتك حديثاً صدقاً تجد على فيه إني لأرجو عقباي من الله فيه، ولا والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدقت فيه فقم حتى يقضى الله فيك . فقمت وثار معي الرجال من بنى سمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسم بما اعتذر به إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسو الله صلى الله عليه وسلم لك فوالله مازالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكذب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل مقالتك وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت: من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمرى من بنى عمرو بن عوف وهلال بن أبى أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة فصمت حين ذكروهما لي ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي والأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك  شفتيه برد السلام علىّ أم لا ؟ ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلى وإذا التفت نحوه أعرض عنى حتى إذا طال ذلك علىّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة وهو ابن عمى وأحب الناس إلى فسلمت علي فو الله ما رد علىّ السلام فقلت : يا أبا قتادة أنشدك بالله ل تعلم أنى أحب الله ورسول ؟ فسكت فعدت فناشدت فسكت عنى فعدت فناشدت فسكت عنى فعدت فناشدت فقال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي ووثبت فتسورت الحائط ثم غدوت إلى السوق فبينا أنا أمشى بالسوق إذا نبطي يسأل عنى من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك ؟ قال : فجعل الناس يشيرون له إلى حتى جاءني فدفع إلى كتاباً من ملك غسان وكتب كتاباً في سرقه من حرير فإذا فيه : ((أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك)) قال قلت حين قرأتها : وهذا من البلاء أيضاً قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك قال : فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال قلت : أطلقها أم ماذا ؟ قال : لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي بمثل ذك فقلت لامرأتي : ألحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضى الله في هذا الأمر ما هو قاض قال : وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له أفتكره أن أخدمه ؟ قال : لا ولكن لا يقربنك قالت : والله يا رسول الله ما به من حركة إلى والله مازال يبكى منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ولقد تخوفت على بصره قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال : فقلت : والله لا أستأذنه فيها ما أدرى ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال : فلبثنا بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ثم صليت الصبح صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت على نفسي وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفي على ظهر سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر قال : فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج .

(توبة الله عليهم ) :

قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلىّ الفجر فذهب الناس يبشروننا، وذهب نحو صاحبي مبشرون، وركض رجل إلى فرساً وسعى ساع من أسلم حتى أوفي على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه بشارة والله ما أملك يومئذ غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله فحياني وهنأني ووالله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب بن مالك لا ينساها  لطلحة .

قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: بل من عند الله قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر قال: وكنا نعرف ذلك منه قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي إلى الله عز وجل أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال قلت: إنى ممسك سهمي الذي بخيبر، وقلت : يا رسول الله إن الله قد نجاني بالصدق وإن من توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقاً ما حييت والله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلانى الله والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقى .

وأنزل الله تعالى :{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا } ... إلى قوله { وكونوا مع الصادقين } التوبة 117-119 ].

قال كعب: فوالله ما أنعم الله على ّ نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله تبارك وتعالى قال في الذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد قال : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءَ بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } التوبة 95-96 ].

قال : وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فعذرهم فيه واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضى فبذلك قال الله تعالى { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }.

وليس الذي ذكر الله من تخلفنا لتخلفنا عن الغزوة ولكن لتخليفه إيانا وإرجائه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه ].

وللحديث بقية – منقول بتصرف من كتاب – المتساقطون على الطريق  كيف .... ولماذا ؟ - للأستاذ فتحي يكن رحمه الله