التمحور حول الذات

ما عودنا القرآن الكريم أن يحدثنا عن خيالات لا علاقة لنا بها، ولا نماذج لن تتكرر فينا، إنما يعرض لنا القرآن نماذج السمو الواقعي بالتجاور مع نماذج الانحراف المتوقع، ليزيدنا هُدى وبيانا، ولتزداد صورة النفس البشرية وضوحًا أمام أعيننا، ولتتم الدعوة إلى معارج الوصول حين نجد القدوة العملية الواقعية، ونجتهد فى الاقتباس منها، ونسعى لنقترب من النموذج، وفى الجانب الآخر من الصورة نرى النموذج المنحدر إلى الهاوية عن قرب، ويشرِّح لنا القرآن قضيته بالتفصيل عارضًا للأسباب والمظاهر وكل ما يحتاج الناس لاجتنابه فى سعيهم إلى النجاة.

ومن صور ذلك الانحراف البشرى الواقعي الذي يتكرر فى كل يوم نموذج التمحور حول الذات، الذي لا يرى غير نفسه وقدراته ومواهبه وإنجازاته، الذي لا ترى عيونُه عيوبَه، ويستحيل عليه أن يلحظ نقائصه، بل يرى غث ما فى يديه سمينا، ويرى سفيه أفعاله عظيمًا، وضعيف رأيه حكمة، ويرى ضلالته هدى واستقامة. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.

إن موازين الحق والباطل لا تستمد شرعيتها من الناس! ولا تقوم على ما يراه البشر، فالحق هو ما قرره الله حقًا، والباطل هو ما قرره الله باطلًا، وليس للناس فى ذلك قليل ولا كثير، وليس من شأنهم، ولا يستطيعون، إلا أن يوفقهم الله ويعلمهم من فضله، ولئن كثر عدد المبطلين حتى صاروا كل البشر فلن يغير ذلك مما قرره ربهم شيئًا، ولئن اجتمعت الإنس والجن على أن الحق باطل أو أن الباطل حق ما تغير من ذلك شيء عند الله.

وأول جريمة يقع فيها أولئك المتمحورون حول ذواتهم أنهم يجعلون أنفسهم فى موضع الحاكم على الناس والأفعال والمواقف، ويعطون لأنفسهم حق التوصيف والتصنيف، ويحتكرون التصويب والتخطئة، كل ذلك بغير سند من شرعٍ أو عقلٍ!

ثم هم بعد ذلك يقعون فى جريمة تزكية أنفسهم ورفعها فوق غيرهم، وهم بذلك يخالفون قول الله سبحانه- وقد علله بحقيقة لا إنكار لها: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} فمن زكى نفسه ورفع قدره فوق غيره فهو آثم متجاوزٌ من جهة، ومعتدٍ ظالمٌ من جهة ثانية، وجاهلٌ بنفسه وبغيره من جهة ثالثة، فليس له من هذا الأمر من حق، بل ليس فى مقدوره أصلًا.

وأول من وقع فى هذه الجريمة ممن عرضهم القرآن (إبليس)، حين رفض السجود لآدم، وظن أنه أفضل منه {قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}، وهنا يبنى (إبليس) قضيته على وهمٍ لا أساس له، ويبرر خطيئته برأىٍ لا قوة له، ويدعى علمًا لا برهان له عليه، ومع ذلك فقد رأى أنه محق، وسار إلى نهاية الشوط، فرفض السجود، وتكبر، بل تحدى بإغواء آدم وذريته، وطلب الوقت اللازم للمهمة، وأعلن العداوة الكاملة لآدم، والعصيان الأبدى لرب العالمين.

وهنا الدرس الكبير الذى يجب ألا يغفله عاقل، وتلك منحة القرآن العظيم المبارك، وتلك هدايته للمؤمنين، إنه البيان التفصيلى للانحراف، بيان كيف يبدأ طريق الضلال، ما الخطوة التى تتبعها خطوات؟ ما الذى يغير المزاج، ويبدل العبادة، ويخلط على الناس، إنه تضخيم الذات، فى هذه الحالة المحددة تضخيم إبليس لقدره، وتكبره على آدم، ثم بعد ذلك تكبره على الحق الذى قرره ربه، وتكبره عن التوبة، وتكبره عن السجود، بل وتكبره حتى عن الانزواء بعيدًا والانسحاب، تكبره وتماديه، وحسده لآدم وتحديه.

إنه المبالغة فى تقدير الذات، وتعظيم أمرها، وتضخيم كل ما يمت لها بصلة، حتى يتمحور الإنسان حول هذه الذات، فيرى الجميع من منظاره، ويزن الجميع بميزانه، يزن الأشخاص والمواقف والأفعال والأقوال، يزن كل ذلك بميزانه هو، ويحسب أنه على الحق، ولا يقبل غير ذلك من أحد! لم يقبل إبليس حكم الله عليه وعلى عقله وفعله وقوله! وكذلك هذا الصنف من الناس لا يقبلون غير رأيهم ولا يسمعون غير قولهم، ولا يؤمنون إلا بأنفسهم وما يفعلون.

وهنا تتجلى رحمة الله العظمى حين يرينا من وراء حجب الزمان ذلك النموذج العجيب، نموذج إبليس، فليس ذكر إبليس سُدَى، حاشا لله أن يكون فى كتابه شيء سدى! فإبليس نموذج للضلال والانحراف، يتكرر مع الناس، وعلينا أن نحذر، وعلينا أن نراجع أنفسنا، ونتيقن أننا بعيدون عنه، فإبليس الذي الذى انحرف حين صنع فكرته ورؤيته من عند نفسه، على غير سند من واقعٍ أو علمٍ أو خبرةٍ أو تجربةٍ أو شهادة صادقٍ حكيمٍ أمينٍ، ثم هو مع ذلك كله رفض هداية الله وامتنع عن العودة إلى الحق، وارتضى بالهلاك والخلود فى العذاب المقيم، اختار ذلك على التوبة والندم والاعتذار المستحق، إنها رحمة الله بنا حتى نتنبه لخطر هذه النفس التى نحملها بين جنباتنا، وربما حملتنا إلى مهالكنا، إنها رحمة الله حتى لا نقع فى مثل ما وقع فيه إبليس، إنه القرآن الذى لا يتوقف عطاؤه فهو قرآن كريم من عند رب كريم.