ثوابت الإسلام ومتغيراته

الثوابت:

للإسلام ثوابت في كل مجال من مجالاته، وهي ملزمة لكل مسلم ومسلمة، ولأن جماعة الإخوان المسلمين جماعة من المسلمين، فهي تتقيد بثوابت الإسلام كلها، وتلتزم التزام السلف وأهل السنة والجماعة بها، وهم – أي الإخوان- لا يحتكرون الإسلام لأنفسهم، ولا يتصورون أنهم كل المسلمين بل هم جماعة من جماعاتهم، وعلى هذا فإن الذي لا ينضم إليهم – أو الذي يخرج عليهم – لا يفقد إسلامه بعدم الانضمام أو بهذا الخروج، ما دام يلتزم بثوابت الإسلام لا يغير فيها ولا يبدل ولا يخرج عليها.

والثبات في الإسلام يحفظ المجتمع من الهزات وهذا ما حدث عبر التاريخ الإسلامي، فلقد تجاوز المسلمون الخلافات السياسية والفكرية والمذهبية بينهم بهذه الثوابت، ولم تؤثر تلك الخلافات في أسس الإسلام وحقائقه وخصائصه ومقوماته، واستعلى المسلمون على الفتنة المادية لما أقبلت عليهم الدنيا بخيراتها بعد الفتوحات الإسلامية، وواجه المسلمون الحضارات الطاغية في البلدان المفتوحة اليونانية والفارسية والهندية، وواجهوا الهجمات الصليبية الشرسة، والاجتياح المغولي والغزو الاستعماري  المعاصر متأسين برسولهم r حين قال له ربه: )فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم( [الزخرف: 43].

فبالتمسك بالثوابت ينجح المسلمون اليوم في مواجهة أخطر غزو لهم، وأكبر تحد أمامهم وهو التلوث الفكري العالمي من اليهودية الغاشمة والصليبية الحاقدة، والعلمانية المارقة، فهل بغير التمسك بالثوابت نستطيع أن نواجه هذه الهجمة الشرسة؟.

إن في الإسلام – كما رأيت- منطقتين: إحداهما قابلة للتغيير والتجديد والتطوير والاجتهاد، وهي منطقة واسعة جداً، فمعظم الأحكام الشرعية العملية ومعظم أمور الحياة الدنيوية التي جاء فيها (أنتم أعلم بأمور دنياكم) والأشياء التي لا نص فيها من الشرع هي (منطقة العفو) رحمة بنا غير نسيان، منطقة فيها نصوص كلية عامة، ونصوص جزئية قابلة للإفهام والتفسير بقواعد الاجتهاد المضبوطة بضوابط الشرع-.

أما المنطقة الثانية فهي مغلقة لا يدخلها التطوير ولا الاجتهاد ولا التجديد، وتشمل العقائد الأساسية – كما ذكرنا- والأصول الكلية والأحكام القطعية وهي التي تجسد الوحدة العقلية والشعورية، والفكرية والسلوكية للأمة، وهي التي تنطلق منها حضارة الأمة كمقوم أساسي لها ولذلك فهي ثابتة على مرِّ الزمان والمكان.

ولولا هذه الثوابت لوجدنا أمما داخل الأمة، ولأصبح الدين عجينة يشكلها من يشاء كما يشاء، ويصبح لكل عصر تصور ودين خاص، وكل قطر له دين خاص، وكل جماعة ليس لها ثوابت تجمعها جميعاً، بل لكل جماعة دين خاص، ولا يصبح عندنا إسلام واحد يوحد الأمة وتقام عليه الحضارة وإنما إسلام متعدد بتعدد الزمان والمكان والأقطار والجماعات واللغات والطبقات، وبذلك يتحقق لأعداء الإسلام هدفهم، فهم يقولون للناس: إن القرآن جاء لفترة معينة هي فترة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وبالتالي فهو ليس ديناً خالداً، وليس كتاب الله لكل الناس، وبالتالي فليس هاك حضارة ثابتة للإسلام، بينما رسالة الإسلام جاءت لكل شؤون الحياة العامة لا تختص بها أمة دون أمة على مر العصور والدهور.

وبشيء من الإجمال نستطيع أن نقول: إن الثوابت في الإسلام هي ما أبانه الله لخلقه نصاً وجاء بصيغة قاطعة لا مجال للاجتهاد فيه، فهو لا يتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الأشخاص ولا البيئات، وهذه أحكام جاءت تفصيلية سموا بها عن الجدل، ببنائها على أسباب لا تختلف باختلاف الأزمنة كآيات وجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، والمواريث التي حددت أنصبة الوارثين، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن كحرمة الزنا، والقذف، والخمر، وأكل أموال الناس بالباطل، والقتل بغير حق، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وما إلى ذلك من أصول العقائد ومسائل الإيمان، وكذلك وجوب العمل بما أنزل الله، ووجوب العمل بالحديث الصحيح، وأمهات الأخلاق، وأمهات الرذائل، أو بمعنى آخر النصوص القطعية في ثبوتها وفي دلالتها من الكتاب والسنة المتواترة سواء كانت الأحكام الدالة عليها معلومة من الدين بالضرورة، أو كانت مما خفي على بعض الناس كأنصبة المواريث مثلاً، أو كانت من المقدرات الشرعية التي لا مجال للرأي فيها وثبتت بالسنة المتواترة كعدد الركعات في كل صلاة، ومواقيت الصلاة وما شاكلها. هذا بالإضافة إلى الإجماع الصريح المنقول إلينا بالتواتر ولا يجوز الاجتهاد فيه، بل ويكفر جاحد الحكم الثابت لهذا الإجماع القطعي إذا كان معلوماً من الدين بالضرورة في أحد أقوال ثلاثة للعلماء.

ولهذا كانت هذه الثوابت حاكمة ومميزة للسلوك والاعتقاد والتي يعرف بها الأتباع لهذا الدين من غيرهم، لأنها بمنزلة العقائد وهي واجبة الاتباع عيناً على كل إنسان، فمن أنكره يكون خارجاً على الملة بضوابط الأحكام الشرعية وبه يتميز المؤمن عن غيره، ولذلك لا يجوز الخروج عليها شرعاً بعكس الظن منها وهو المتغير والذي يحتمل أكثر من وجه، من أخذ بوجه منه فهو في دائرة الإسلام لا يخرج منها.

المتغيرات:

هي مجال العقل والتفكر والتدبر والاجتهاد في إطار الثوابت القطعية لأن المتغيرات ظنيات، ولذلك من أنكر فيها فهماً معيناً تحتمله الآية كما تحتمل غيره لا يكون خارجاً عن الملة – كما قلنا- لأنه آمن بالثوابت القطعية وما حاد عنها، ولكنه أنكر وجهاً من الظنيات المتغيرة المجتهدة فيها، وكل مجتهد يتبع فيه ما ترجح عنده، وأتباعه على حق ما دام أهلاً للاجتهاد والنظر.

إذ لو كانت الأدلة كلها قطعية ثابتة، لكان في هذا حجر على العقول البشرية، وجمود للأفكار ولأصيب الناس بحرج شديد وتضييق كبير، ولوقفنا عاجزين أمام المسائل المتجددة في كل عصر، والتي يطلب الناس معرفة حكمها، ولا يكون ذلك على الوجه الأكمل إلا إذا نظر المجتهدون في الظن من النصوص، واستنبطوا منها أحكاماً لما يجد من الحوادث، وبذلك تتعامل الشريعة مع مصالح الناس في كل عصر ومصر، بل لو جاءت النصوص كلها قطعية لقال قائل هلا جاءت مرنة حتى لا نكون أمام النصوص آلات لا إرادة لها ولا اختيار ولا إعمال عقل)ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير( [الملك: 14].

وهكذا يكون الخلاف الفقهي الناتج من الاجتهاد في المتغيرات لا ضرر فيه، ولا مفسدة بل هو توسعة على الأمة في مجال الاختيار، وفسحة أمامهم في طريق العمل، يأخذون من هذه الأحكام ما يحقق مصالحهم، ويتفق مع ما تتطلبه حياتهم، ويرفع عنهم الحرج والضيق، بل كان الاختلاف نفسه مصدر ثروة تشريعية عظيمة، وتراث فقهي رائع، تستوعب حاجات الناس في ظلال شريعة الإسلام الخالدة ما دمنا نحافظ على القطعى الثابت، وفي هذا يقول عمر بن عبد العزيز: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً. وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا، كان في الأمر سعة. لذلك قال الإمام أحمد: الخلاف سعة.

ويقول يحيى بن سعيد: أهل العلم أهل توسعة وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا ما دام اجتمع الجميع على الثوابت الحاكمة وكان اجتهادهم في المتغيرات.

الدرس المستفاد:

ونتعلم من هذا أن جميع الجماعات الإسلامية المنتسبة إلى أهل السنة والجماعة، لابد أن تجتمع على ثوابت الإسلام لا تشذ جماعة عن ذلك فثوابت الإسلام ثوابتها جميعاً، وفضلاً عن ذلك فإنه بالإضافة لهذه الثوابت المجمع عليها والتي يلتزمون بها لأنهم جميعاً مسلمون، إلا أن كل جماعة من هذه الجماعات لها ثوابتها التي تميزها عن غيرها، فما يميز جماعة الإخوان المسلمين عن غيرها هي ثوابتها والتي هي في إطار ثوابت الإسلام، ولهم أيضاً متغيراتهم حتى لا تصير الدعوة جامدة متحجرة، أو تفقد صلاحيتها لكل زمان ومكان، تلك الصلاحية التي علينا التحلي بها مادمنا نحمل رسالة الإسلام أمانة في أعناقنا، محافظين علهيا مضحين من أجلها.

كما أن الإسلام بأحكامه القطعية الثابتة والظنية المتغيرة علمنا كيف تتسع صدورنا لمساع الرأي الآخر في الأمور المتغيرة، لأنها مجال الاجتهاد وإبداء الآراء والإبداع مادام الجميع يلتزمون بثوابت الجماعة ولا يقتربون منها رغبة في التغيير.

وهكذا يتعلم أفراد الجماعة المسلمة كيف يكون الخلاف؟ وكيف يحترم الرأي الآخر، مادام في إطار ثوابت الجماعة، أما من يخرج على ثوابتها فلا قيمة لرأيه، ولا يؤبه لكلامه، لأنه حطم هذه الثوابت فلا يعتد به، ولا بقوله، كما لم يعتد أهل السنة والجماعة بالخوارج حين كفروا بالكبيرة، والمعتزلة حين قالوا بالمنزلة بين المنزلتين، والمرجئة حين قالوا: لاقدر والأمر أنف فخالفوا أهل السنة في ثوابتهم.

فأقوال الفقهاء المجتهدين – وهم المحافظون على الثوابت – بالنسبة للشريعة كمثل أغصان الشجرة، تتشعب وتتفرع، والأصل الذي انبعثت منه واحد، والذي تتغذى منه واحد، يغذى جميع الفروع والأوراق والأغصان المتفرعة، وهكذا جماعة المسلمين أما الفرق السابقة فهم أصحاب الاختلاف العقائدي والسياسي.

وهذا درس بليغ للجماعات المسلمة يتعلم أفرادها كيف يختلفون ومتى وفيم يختلفون، ويبدون الآراء داخل الجماعة المسلمة في إطار احترام ثوابت جماعتهم، أما حين الخروج على الثوابت فلا قيمة لرأي يقال، ولا قضية تناقش.

وبهذا التصور السليم، والفهم الصحيح للثوابت والمتغيرات، تصبح الثوابت بمثابة القواعد الحاكمة على الأفراد، والإطار الضابط لسلوكهم وتصرفهم والميزان الدقيق الذي يعرف به وجهتهم، بل وبه يتميزون عن غيرهم.

فما هي إذن ثوابت جماعة الإخوان المسلمين التي تميزهم عن غيرهم، كما تبين لنا من فكر الإمام البنا رضوان الله عليه.