شعبان عبد الرحمن

رحم الله المهندس إبراهيم غوشة (1936م ـ 2021م) أحد قادة "حماس" الكبار وأول صوت ينطلق متحدثا رسميا باسمها ( 1991 ـ 1999م ) بعد انتخابه في أول مكتب سياسي لها عام 1991م .

لقي ربه الخميس 26 أغسطس 2021م العاصمة الأردنية عمان ودفن بها، بعد رحلة طويلة وشاقة بين قافلة المجاهدين لتحرير فلسطين استمرت واحدا وسبعين عاما، منذ التحاقه بالحركة الإسلامية في القدس عام 1950م وهو ابن الرابعة عشرة من عمره، وبعد انتقاله عام 1961م لدراسة الهندسة بجامعة القاهرة بات من أبرز الناشطين الإسلاميين في رابطة الطلاب الفلسطينيين بمصر.

أخبرني ـ يرحمه الله ـ أن ياسرعرفات كان زميل دراسته في كلية الهندسة.. وهكذا التقيا في ساحة جامعة واحدة وفي مدرجات نفس الكلية وعاشا نشاطا طلابيا صاخبا، وقبل التخرج من الجامعة تبلور فكر كل منهما.. ياسر سبق إلي المشاركة في تأسيس حركة "فتح" ( يناير 1965م ) وغوشة للمشاركة في تأسيس حركة "حماس" (ديسمبر 1987م ).. وبعد التخرج سافر كل منهما الكويت للعمل مهندسا وهناك برز مشروعهما النضالي والفكري أكثر.. مشروعان متنافسان لتحرير فلسطين ولكنهما مختلفان في الفكرة والهوية والمنطلق، ووصل الخلاف بينهما إلي حد الافتراق والصراع أحيانا حتي وصل حالهما  إلي ما نعاينه اليوم.. "فتح" ومنظمة التحرير في أضعف أوضاعها ـ للأسف ـ بفعل التخلي عن بندقية تحرير الأرض، وهرولة قادتها وراء سراب التطبيع، وتسرب الخلاف بل والصراع بينهم خاصة بعد غياب عرفات (أبوعمار) يرحمه الله.

أما "حماس" فظلت قابضة علي الزناد حتي اليوم وثابتة علي جذورها الفكرية ومشروعها الجهادي، حيث يتسابق قادتها قبل شبابها إلي الشهادة في سبيل الله، فانتقلت من نصر إلي انتصار، وقارعت العدو قوة بقوة ورعبا برعب.. هنا وفي هذا الميدان عاش إبراهيم غوشة ـ يرحمه الله ـ ريعان شبابه وواصل كفاحه وقاسى محن "حماس" وذاق انتصاراتها.. حتي لقي ربه راضيا مرضيا إن شاء الله.. وحمله قادتها وجماهير الأمة علي الأعناق إلي مثواه الأخير.

التقيت به ثلاث مرات في أواخرعام ١٩٩٠م أثناء الغزو العراقي للكويت.. المرة الأولى في العاصمة الأردنية عمان عندما ذهبت إلى الأردن موفدا من جريدة "الشعب" المصرية المعارضة لتغطية تدفق أفواج النازحين من الكويت عائدين إلي بلادهم عبر الأردن، وكانت صحراء الرويشد على الحدود العراقية الأردنية على اتساعها أشبه بمحطة استراحة من وعثاء سفر طويل من أرض الكويت إلى الأردن، وهناك تحولت تلك الصحراء التي غصت بالخيام والمستوصفات المتنقلة إلى أشبه بمدينة أو معسكر مفتوح تدفق إليه المساعدات والإغاثة من داخل الأردن ولم تتوقف وفود الزائرين إليه وكان من بينها وفد نواب الحركة الإسلامية الذي اصطحبني معه، موفرا لي فرصة نادرة لتغطية هذا الحدث خاصة أنني لم أتمكن علي مدى أيام من تحقيق تلك الفرصة لصعوبة الإجراءات الأمنية وبالتالي صعوبة الحصول على تصريح سفر إلى تلك الصحراء البعيدة.

في تلك الرحلة التي امتدت لساعات ذهابا وإيابا كان مقعدي بجواره فتعرفت عليه جيدا بعد أن تبادلنا أحاديث مطولة حول قضايا عديدة.. اكتشفت خلالها أنني أمام شخصية من الوزن الثقيل في فكره وآرائه وتعامله وذكائه الاجتماعي وتواضعه الجم.

وبعد هذا اللقاء بأكثر من شهر ذهبت إلى طرابلس ليبيا لمتابعة جولة وفد الوساطة الإسلامي إلى عمان ودمشق وبغداد ـ كمحطة أخيرة ـ للقاء صدام ومحاولة إثنائه عن مواصلة الغزو، وقدر لي يومها حضورالاجتماعات التحضيرية لهذا الوفد الذي ضم نخبة من قيادات العمل الإسلامي من بينهم الأساتذة: نجم الدين أربكان، محفوظ نحناح، إبراهيم شكري وإبراهيم غوشة رحمهم الله جميعا والأستاذ راشد الغنوشي حفظه الله. وفي هذه الاجتماعات التي استمرت أسبوعين في فندق المهاري بطرابلس تعرفت أكثر ـ من خلال مداخلاته العميقة وملاحظاته الدقيقة ـ على معالم شخصيته وأفكاره وثقافته وأخلاقياته في الحوار والاختلاف والاتفاق والمعارضة .

وافترقنا عدة أيام ثم التقينا للمرة الثالثة في القاهرة بمنزل الأستاذ إبراهيم شكري يرحمه الله مع وفد الوساطة، حيث المحطة الختامية لجولته التي لم يتمكن فيها من إقناع صدام بالخروج من الكويت، وقد تبع تلك الجولة جولة اخري لوفد وساطة إسلامي آخر برئاسة الاستاذ محمد عبدالرحمن خليفة المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن ـ يرحمه الله ـ وكان متحدثه الرسمي الدكتور حسن الترابي يرحمه الله، ولكنه لم ينجح أيضا مع صدام.. وصار ما صار ومضت سنوات حتي التقيت بالراحل الكبير في الجزائر عام 2007م في مؤتمر مؤسسة القدس، وجدته كما هو لم ينس رغم مضي سبع سنوات علي لقائنا الأول، وجدته كما التقيته للمرة الأولي.. نعم الرفيق في السفر ونعم المضيف ونعم الرجل الجسور في قول كلمة الحق الواعي بقضايا أمته والتحديات التي تواجهها وبمداخلاته العميقة وآرائه الثاقبة.. وحبه لفلسطين والمسجد الأقصى.

إبراهيم غوشة .. لبنة مهمة في صرح حماس الكبير وثمرة يانعة من ثمار الحركة الإسلامية وفارس نذر نفسه لتحرير بلاده.. رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.