(إن معى ربى سيهدين). شعار الأنبياء والدعاة والمصلحين، وقت المواجهة واحتدام الأخطار، عنوان السكينة حين تتزلزل القلوب وتزوغ الأبصار، إعلان الهوية حين تتقارع الرايات، ومنابع القوة، وأسباب العزة، وسر الثبات، حين يستعلى الباطل ويتكبر، وحين يغتر بما فى يديه، ويفتن الضعفاء والمغيبين بضجيجه الفارغ وبهرجه الزائف، ووعوده الكاذبة.

معية الله لعباده الصالحين، لجنده المصلحين، للدعاة العاملين المجاهدين، معية لم يجعلها الله وقفًا على الأنبياء والمرسلين، بل أنعم بها على عباده أجمعين، وجعلها فضلًا سابغًا شاملًا كل مجتهد فى طريق الحق، ساعٍ إلى رضوان الله ونصرة دينه، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) معيته سبحانه- لهم وحمايتهم وتولى أمورهم، والكيد لهم وتدمير أعدائهم، وضمان نصرهم، رغم ضعفهم وقوة عدوهم، وقد ورد فى التفسير: قوله (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة، كقوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) الأنفال١٢، وقوله لموسى وهارون: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه ٤٦، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصديق وهما في الغار: (لا تحزن إن الله معنا ) التوبة. (الذين اتقوا) أي: تركوا المحرمات، (والذين هم محسنون) أي: فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم، وينصرهم ويؤيدهم، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم. (انتهى)

وهكذا جعل الله سبحانه- معيته للمؤمنين، الذين اتقوا والذين هم محسنون، جعل الله معيته لهؤلاء كمعيته للأنبياء والمرسلين، وذلك من عظيم فضله وكريم إحسانه، وتلك نعمة لو علمها المؤمنون لسجدوا لله شكرًا عليها ولاجتهدوا ما وسعهم اجتهادهم، عسى أن يؤدوا شكرها، ذلك أن التقوى والإحسان لازم من لوازم الإيمان الصادق بالله، ومن تبعات الاجتهاد فى طريقه، ومن أولى صفات المؤمنين الراغبين فى الفوز بما وعدهم سبحانه فى دار كرامته، فليس بمستغرب ولا بمستبعد أن نسعى جميعا لنكون أتقياء محسنين، بل لا يتصور فى العقول غيره. 

ومن نافلة القول أن هذا هو المراد ولا مراد غيره، وهذا هو الهدف الذى نعلنه فى كل نادٍ، وذلك مقصود مناهجنا التى ندرسها فى كل ملتقى، ألا وهو التحقق بصفات المؤمنين، الأتقياء المحسنين، نتدارس كتاب الله وسنة رسوله المبين، نتعلم العقيدة والحديث والسيرة والتاريخ، والفقه والتزكية، وندرس كل نافع مفيد فى تجمعاتنا وملتقياتنا، ونأخذ من ذلك كله، ومن كل فقرة منه الدروس العملية التى نغير بها حالنا مع الله، ونزكى بها نفوسنا، ونرتقى بها إلى معارج القبول فى مدارج السالكين، نصحح ما فينا من عيوب وآفات، ونتحلى بكل طيب كريم يحبه الله ورسوله، تلك طريقتنا وخطتنا، ليست مغيبة عن أحد، ولا نتخلى عنها ما حيينا. 

وجهادنا فى سبيل الحرية، وسعينا الدائم المستمر لنيل حقوقنا وحقوق أمتنا دين نتعبد به لله تعالى، ونطلب رضوانه ورفعة الدرجات عندهٍ به، وبكل تضحية في هذا السبيل، وبكل صبر عليه، نحتسب على الله متاعبنا ومطارداتنا وسجننا وتشريدنا، نحتسب كل ألم أصابنا وأصاب أحبابنا فيه، فلسنا ثوارًا من أجل الثورة، ولا متمردين بلا دين ولا عقيدة، ولسنا مشاغبين على أحدٍ لهدف وضيعٍ او سببٍ من أسباب فسادنا، فنحن مؤمنون بالله، مسلمون له، ملتزمون بشرعه، مهتدون بسنة نبيه صلى الله علي وسلم، نحن مؤمنون إيمانا يأبى علينا الذل، ويرفعنا عن منازل العبيد المقهورين المنبطحين، ويحرم علينا أن نخضع إلا لله ولا نحنى لسواه الجباه. نتأسى برسول الله وبكل إخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين واجهوا الدنيا كلها، ولم يكن معهم إلا الله، وحسبهم وحسبنا معية الله.

وهذا هو التحدى الأكبر، وتلك هى المجاهدة العظمى، المنوطة بكل فرد منا على حدته، أن يجتهد كل الجهد، ويراجع نفسه فى كل جزئية من جزئيات حياته، فى كلماته ومواقفه، فى تصوراته واعتقاداته، فى أخوته وجنديته، فى أعمال يومه وليلته، فى سننه ورواتبه وأوراده، فى متطلبات هذا الدين منه فى نواحى حياته المختلفة، فنحن نتطلع ونترقب النصر والتأييد، (إلا إن نصر الله قريب) يتنزل على من يستحقه، ممن فاز بمعية الله، الذين اتقوا والذين هم محسنون، وبهذا نفهم ونقول: صدق من قال: (إن ميدانكم الأول أنفسكم فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر وإن عجزتم عنها فأنتم عن غيرها أعجز)  

ومن كان الله معه فمن يبالى؟ من كان الله معه فممن يخاف؟ من كان الله معه فمن يقدر عليه؟ نعم معية الله حسبنا، تكفينا وقوداً لمعركتنا مهما طالت، وتكفينا زادًا للطريق رغم وعورته وقساوته، معية الله تؤنسنا فى غربتنا وانفرادنا وتخلى الناس عنا، معية الله تسعد قلوبًا ليس لسعادتها سبب مادي آخر، معية الله تمدنا بما نحتاج كل ما نحتاج، فنصير بالله أغنى الناس وأقوى الناس، نصير بمعيته أشد الناس بأسًا وأعظمهم أثرًا، وأعلاهم همةً، وأقدرهم على الفعل والتغيير، وأغيظهم للظالمين، معية الله تأخذنا إلى طريق النجاح وتحقيق الأهداف، معية الله نزلزل بها عروش الظالمين ونبيد بها سلطانهم، وندمر ما يصنع كل فرعون ومن معه، وندمر باطل ما كانوا يعرشون، مصداقًا لصدق ما أخبرنا الله من قبل: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: ١٣٧.