تأليف
لمجموعة من علماء الأزهر
إشراف :الدكتور
أحمد زايد
أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية
جامعة الأزهر

 

الحج فريضة متميزة وعبادة شاملة
أيها الأخوة المسلمون في هذه الأيام المباركة يرحل الناس من كل فجٍّ عميق، من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها إلى بيت الله الحرام، ليؤدوا هذه الشعيرة العظيمة شعيرة الحج التي فرضها الله تبارك وتعالى على كل مسلم ومسلمة في العمر مرة متى استطاع إليها سبيلاً، يقول الله عز وجل : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ( البقرة : 96 ، 97 )
" مَنْ كَفَرَ " أي من أعرض عن الحج ولم يستجب لأمر الله تعالى وهو قادر عليه وضع مكان هذه الكلمة "من ترك الحج" .. " من كفر" فهذا تنبيه على أن من ترك الحج وهو قادر عليه ، فقد سلك طريق الكافرين (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) ومن فضل الله تبارك وتعالى أنه جعل الحج فريضة مرة واحدة في العمر، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، فقال: «إن الله تعالى كتب عليكم الحج» فقال الأقرع بن حابس التميمي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، فقال: «لو قلت نعم، لوجبت، ثم إذا لا تسمعون، ولا تطيعون، ولكنه حجة واحدة» . إن من فضل الله أنه فرض هذه الفريضة في العمر مرة واحدة وهي فريضة متميزة وعبادة شاملة.


في الحج تزكو النفوس ، وتتحقق منافع الأمة :
إن الحج فريضة عظيمة وشعيرة لا نظير لها، هي شعيرة قديمة جديدة من عهد إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } ( الحج : 28) هذا الحج ليس لله تعالى حاجة فيه الله غني عن العباد ، الله غني عن عباده، وإذا فرض عليهم فرائض فإنما ذلك لمصلحتهم ليرقى بهم لتزكو أنفسهم ليرتقوا في معارج الرقي الروحي والنفسي والأخلاقي إلى ربهم لتتحقق لهم منافع اجتماعية بهذه العبادات، فالله سبحانه وتعالى إذا فرض علينا عبادة من العبادات فليس ذلك لمنفعته، فالله سبحانه لا تنفعه طاعة المطيع كما لا تضره معصية العاصي. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }( فاطر:15)
فرض الله علينا الصلاة كما قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }( العنكبوت : 45) ، وفرض الله علينا الزكاة ليطهرنا ويزكينا بها { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }( التوبة : 103) ، وفرض علينا الصيام لعلنا نتقي الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(البقرة 183).


وفرض علينا الحج { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } ( الحج : 28) ، هناك منفعة مؤكدة للإنسان المسلم وللمجتمع المسلم وللأمة المسلمة، فالإنسان المسالم يعود بعد الحج أزكى نفساً وأطهر قلباً وأكثر تصميماً على فعل الخير والبعد عن الشر، هذا ما نشهده في عموم الناس، أن الإنسان بعد الحج أفضل منه قبل الحج، الحج يعطيه شحنة روحية نفسية عاطفية يزوِّده بهذه الشحنة ليدخل بها معركة الحياة، فهذا من أثر هذه العبادة العظيمة، عبادة في أرض بارك الله فيها للعالمين أرض تهب عليها الذكريات الإبراهيمية من بعيد والذكريات المحمدية من قريب، يذكر المسلم إبراهيم وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت ويدعوان الله {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }( البقرة 127 ، 128)


الحج تدريب على المبادئ العليا والقيم الرفيعة :
ثم الحج بعد ذلك تعليم لمبادئ الإسلام، وتدريب للمسلم على المبادئ العليا والقيم الرفيعة التي جاء بها الإسلام خصوصاً القيم الاجتماعية.. المساواة، الإخاء، الوحدة، السلام، هذه تتجسد في الحج تجسداً كاملاً، مساواة لا شك فيها، المسجد يحقق المساواة ولكن يبقى الناس متفاوتين في أزيائهم المختلفة، هذا يلبس غترة وهذا يلبس عقالاً وهذا يكشف رأسه وهذا يلبس بدلة افرنجية، وواحد يلبس ثياب غالية الثمن وآخر يلبس ثياب بدراهم معدودة فيظل هناك قدر من التفاوت، أراد الله سبحانه وتعالى في الحج أن يزيل هذا التفاوت يلبس ملابس لا تدخلها الصنعة، هناك بعض الفلاسفة قالوا: إن الإنسان يحتاج في بعض الأوقات أن يعود إلى لقاء الطبيعة وإلى ظهر الطبيعة نادى بذلك روسو وغيره من الفلاسفة الغربيين ولم يستطيعوا أن يحققوا ذلك، الإسلام حقق ذلك بفريضة الحج، عُد إلى الطبيعة إلبس ثياباً في غاية التواضع كلها ثياب بيضاء وثياب ليس فيها صنعة، لم تدخل فيها يد الخياط، الذي يفرق بين الناس بتزويقاته وزخرفاته، عُد إلى الفطرة إلى الطبيعة، فهذا يعلِّم الإنسان المساواة بغيره، يتحقق في هذا المساواة بين الناس، أنت في عرفة أو في الطواف حول البيت أو في السعي بين الصفا والمروة لا تفرق الأمير من الغفير ولا الوزير من الحقير، كلهم سواسية، تعليم المساواة، الوحدة، وحدة المسلمين أن المسلمين أمة واحدة، المسلم يسمع ذلك من الخطباء ومن الوُعَّاظ في الحج، يرى وحدة هذه الأمة أمة ربها واحد ونبيها واحد وكتابها واحد وقبلتها واحدة، وشعائرها واحدة ما الذي يمنعها أن تتوحد، إنه يرى ذلك مجسَّداً في فريضة الحج.


الحج رحلة سلام :
وفريضة الحج رحلة سلام المسلم في هذه الرحلة هي رحلة سلام إلى أرض السلام في زمن السلام، رحلة سلام بالإحرام، امتنع المسلم عن أي شيء فيه إيذاء لغيره حتى الجدال، وحتى الصيد لا يصيد لا لنفسه ولا لغيره (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة: من الآية95) حتى قطع الحشائش في تلك الأرض، لا يجوز. إنه سلم لكل ما حوله ومن حوله.


الناس في عصرنا ينادون بالسلام، والإسلام يعلِّم المسلم هذا السلام، في أرض السلام، مكان من دخله كان آمنا حتى قال عمر: "لو رأيت فيه قاتل أبي ما مسَّته يدي" أمن وسلام فهذه هي الفريضة العظيمة في هذا المؤتمر العظيم الذي دعا إليه الله تبارك وتعالى ولبَّاه الناس من كل صوب ومن كل فجٍّ عميق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الحُجَّاج والعُمَّار وفد الله دعاهم فأجابوا وسألوه فأعطاهم" هم وفود الله عز وجل إلى بيت الله إلى أرض الله.


من المحلية إلى العالمية :
المسلم بقوة الجماعة التي يراها وبهذا الدعاء الذي يشق عنان السماء "لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك" بهذه الأعين التي تذرف العبرات عند الملتزم وفي الطواف بالبيت الحرام هؤلاء الخاشعون المخلصون يراهم الإنسان العادي فيتأثر قلبه وينفعل وجدانه وتقوى إرادته، إنسان ليس حجراً صلداً إنما هو مشاعر وعواطف وأحاسيس، هذه الرحلة العظيمة تعلِّم المسلم ذلك وتعيده بهذه الشحنة الروحية العاطفية، من ناحية أخرى الحج يوسع أفق المسلم الثقافي، الإنسان الذي يعيش في قريته أو في بلده وبين أهله وأقاربه لا يعرف شيئاً عن العالم من حوله، الإسلام ينقله من هذه المحلية إلى العالمية، فيرى الناس من كل الألوان وكل الأجناس وكل الأقاليم وكل الطبقات، يرى هذا وقد قدم من الصين وهذا وقد قدم من جنوب إفريقيا، وهذا من استراليا وهذا من البرازيل وهذا من آسيا وهذا من شرق إفريقيا وهذا من غربها وهذا من جنوبها وهذا من شمالها وهذا من وسطها، المسلم ينتقل من أفق إلى أفق بهذه العبادة ويعلم أن دينه ليس ديناً محلياً هو دين عالمي، وأن أخوته المسلمين في كل العالم، هذه نقلة نوعية مهمة للإنسان المسلم.